إلى من يناضلون ليظلوا عبيدًا …
حين يُعاد استبطان نخبُ الشمال للعبودية كمشروع حربٍ على الجنوب

بقلم: م. أحمد صالح الغلام العمودي
“لا يوجد في قاموس السقوط الأخلاقي ما هو أدنى منزلةٌ من أن يُكابد الإنسان ويُناضل لا ليكسر قيوده، بل ليُحسن التعايش معها، ويبحث له عن صيغة تبرير أخلاقي أو سياسي. إن ما نشهده اليوم من تهافت نخب الشمال، وآخرهم نائب وزير الخارجية، نحو أعتاب الجماعة الحوثية، ليس مجرد ‘انعطافة سياسية’، أو انشقاق سياسي بمقاييس المصالح، أو مناورة سياسية عابرة؛ بل هو، في جوهره الأعمق، ظاهرة سوسيولوجية كاشفة لانشطار بنيوي في الثقافة السياسية لشمال اليمن، وانتحار قيمي فاضح يُعرّي عورة منظومتين ثقافيتين فكريتين متكاملتين في العطب وإن اختلفتا في الموقع.
الأولى هي ثقافة نخب الهضبة الزيدية المؤسِّسة؛ تلك النخبة المتماسكة بواجهاتها القبلية والدينية والعسكرية والسياسية، التي تعتقد جازمةً بأحقيتها المطلقة الحصرية في السيادة والحكم. حيث لا تزال مسكونة بوهم الحق الحصري في السيادة، وبالوهم العنصري الذي لا ترى فيمن جاوز حدودها الجغرافية والمذهبية إلا رعايا مسلوبي الإرادة، تنظر إليهم نظرة استعلاء وكأنهم تابعون بالفطرة أو رعية بلا إرادة أو أرقّاء لجغرافية هضبتها، وظنت أن هذه الجغرافيا تمنحها امتياز الاستعلاء، والانتماء المذهبي يُجيز لها تصنيف البشر بين سادة وعبيد.
أما الثقافة الثانية، فهي أكثر مأساوية وأشد مرارة، وهي الساكنة اليمن الأوسط، حيث استمرأت وأَلِفت بعض نخب هذه الجغرافيا حالة الخنوع، حتى باتت ترفض مجرد الالتفات لمن ينشد الحرية من سطوة وأصفاد نخب الهضبة.. نخبٌ آثرت السلامة الزائفة على الكرامة، واعتادت العيش في الظل، حتى غدت الحرية في وعيها مغامرة غير محسوبة، والتمرد على الهيمنة ضربًا من الجنون السياسي.
إن هذا التماهي والتلاحم العصبوي بين ثقافة الهضبة الزيدية المؤسِّسة، وثقافة الوسط الخانعة التابعة لا ينذر إلا بتحالفٍ وشيك، وبجولة جديدة من التعبئة الأيديولوجية والتجييش، وبانطلاق ماكينة إعلامية وقحة عابرة للحدود؛ تسعى لجر الشعب في الشمال نحو حرب عبثية جديدة ضد الجنوب، متدثرة بجلباب ” الحفاظ على الوحدة ” التي لم يبقَ منها في الضمير الحي إلا ما بقي من الميت في كفنه.
ولم يكن هذا التماهي وليد اللحظة، بل سبقته وحايثته سنوات من التمهيد الإعلامي الذي قادته أذرع إعلامية تدور في فلك الخطاب الإعلامي والسياسي لحزب التجمع اليمني للإصلاح في الخارج، مسنودًا بالمنصات والقنوات الإعلامية للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. هذا الخطاب الذي يستنقص من تضحيات أبناء مناطق الجنوب، والتشكيك في دور دول التحالف العربي؛ حتى غدا مقدمة منطقية لما نشهده اليوم من انكشاف وانحياز سابق لتلاحم قادم.
وإذا كان هذا التلاحم، في ظاهره، غير مفاجئ ولا مستغرب لمن يقرأ مسار الحرب اليمنية بعمق، فإن الغوص في بنيته الفكرية لا يقل أهمية عن تفكيك ملامحه الخارجية. فهو، في حقيقته، محاولة يائسة لتعميم “ثقافة الخنوع”، ودفن ما تبقى من كرامة إنسانية، وتعبير فجّ عن العجز والخوف، والهروب من مواجهة الذات بوقفة مراجعة نقدية صادقة، تبحث عن علاتها في داخلها قبل لوم الآخرين وتوزيع اتهاماتها لهم بما تقترف هي ذاتها في نفسها وأهلها وأمتها … نحن أمام نخبٌ لا تجيد سوى مهاجمة الجميع إلا نفسها، والهروب إلى الأمام، ولا تملك من الشجاعة ما يمكّنها من النظر خارج عدسات ثقافة الهضبة الزيدية المتشبثة بادعاء الحق الإلهي والحق التاريخي معًا؛ ظنًا منها أن هذه المنهجية هي السبيل للإفلات من الاستحقاقات المترتبة على أزماتها الداخلية المتفاقمة المتلاحقة، التي تتوارثها أجيالها جيل بعد جيل.
وفي سياق متصل، لا يجوز للقراءة السياسية الجادة أن تتجاوز ما جرى مؤخرًا في سلطنة عُمان من اتفاقٍ بشأن المحتجزين والأسرى بين الحكومة الشرعية وجماعة الحوثي؛ إذ إن القيمة الإنسانية للاتفاق، على بداهتها، لا تُسقِط السؤال الجوهري المتعلق بتوقيته: لماذا يُبرم الآن، بعد عقدٍ كامل من المعاناة المديدة للأسرى وذويهم؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لا تستقيم خارج التغير الواضح في ميزان القوى على الأرض، الذي فرضته القوات المسلحة الجنوبية والنخبة الحضرمية في حضرموت والمهرة .. هذا المتغير المستجد الذي أعاد تعريف مراكز الفعل والضغط. وبهذا المعنى، لا يُقرأ الاتفاق بوصفه انفراجًا إنسانيًا خالصًا لا يُجادَل فيه، بل بوصفه مؤشرًا سياسيًا على ميلٍ متصاعد داخل مكونات ونخب الهضبة الزيدية ونخب الوسط اليمني إلى تجاوز تناقضاتها الداخلية، وتسوية حساباتها البينية، تمهيدًا لإعادة إنتاج اصطفافٍ جامع في مواجهة الجنوب. ومن ثمّ، يغدو الاتفاق أقرب إلى صيغة اعترافٍ متبادل بما ارتُكب من انتهاكات داخل فضاء الهضبة والوسط وبين مكوناتها، وإعلانًا غير مباشر وعربون مصداقية لطيّ صفحة الصراع الداخلي، استعدادًا لفتح جبهة جديدة موحدة متماسكة تستهدف كسر شوكة المشروع الجنوبي في فك الارتباط من الوحدة، وإعادته إلى دائرة الهيمنة التقليدية، حتى ولو عبر الارتهان مجددًا لقاطرة الكهنوت الإمامي، باعتبارها الأداة الأقدر على توحيد هذه المكونات في مواجهة ما بات يُنظر إليه بوصفه الخطر الاستراتيجي الأبرز لحقوقها الإلهية والتاريخية!
ومع إيماننا الراسخ بوجود أصوات شريفة وحرة في الشمال ترفض هذا المسار المهين، فإن تهميش هذه الأصوات وصمتها أبقاها على هامش الفعل والتأثير، وفتح المجال واسعًا أمام نخبٍ لا ترى في السياسة سوى وسيلة لإعادة إنتاج عبوديتها، وتسويقها بوصفها حكمة أو واقعية سياسية.
إنه لمشهد سوريالي بالغ القسوة، أن ترى رموزًا كان يُفترض بها أن تقود مسيرة التنوير.. بدلاً من ذلك نراها تتنافس في مضمار “العبودية الطوعية”: فإذا كان علي عبد الله صالح، بكل ادعاءاته الجمهورية وشعاراته الوحدوية المُفرغة من مضمونها، قد انتهى به المطاف إلى مجرّد موظف برتبة “عكفيّ” على أعتاب سلالة الإمامة، فلا يثير العجب اليوم أن نشهد نائب وزير الخارجية يسلك الدرب ذاته، باحثًا عن موضع قدم في بلاط الكهنوت ذاته.. مشهدٌ لا يشي بانحراف فردي بقدر ما يكشف قانونًا ناظمًا لسلوك نخب الشمال، في هضبته ووسطه على السواء؛ نخبٌ تتقاطر لطلب ودّ الجماعة الحوثية، طلبًا لغفرانٍ سياسي عمّا تراه السلالة خروجًا سابقًا على “حقها الإلهي”، ولو كان الثمن التفريط الكامل بمعنى الدولة، والتنازل الطوعي عن الكرامة، والقبول بالعودة إلى مقام التابع الخاضع في معادلة الحكم.
وإذا كان لهذا المشهد من دلالة، فهي أن بعض نخب الشمال، في الهضبة واليمن الأوسط، اختارت الانصياع ليس كقيد مفروض، بل كخيار مُستبطَن، تتحول ثقافته إلى آلية لإعادة إنتاج الهيمنة، تُطمَس من خلالها القدرة على مواجهة الذات ومواجهة الحقائق الوطنية. وفي مقابل هذا، يُعيد الجنوب بإرادته أبنائه ووعيهم الجمعي اليقظ الاعتبار لقيمة العدالة، ويؤسس لحرية الاختيار، بعيدًا عن كل أشكال الهيمنة والرق المستتر والسيطرة المستبطنة.
حرر في:
التاريخ : 4 رجب 1447 هــ
الموافق : 24 ديسمبر 2025 م


