مقالات الرأي

ما هي خارطة الحوار اليمني–اليمني التي تلمّح إليها الصين؟

(قراءة في بيان بكين حول تطورات اليمن):

بقلم: د. أحمد بن إسحاق: 

في توقيتٍ بالغ الاهمية، جاء البيان الصيني الأخير بشأن تطورات الأوضاع في اليمن، متضمّنًا عبارة مفصلية لا يمكن المرور عليها بوصفها مجرّد صياغة دبلوماسية اعتيادية، حين أوضح المتحدث باسم الخارجية الصينية أن:
“الصين ستواصل تعزيز محادثات السلام بطريقتها الخاصة، وستواصل لعب دور بنّاء في دفع عملية التسوية السياسية للوصول إلى حل شامل يراعي جميع المخاوف المشروعة للأطراف اليمنية”.
هذه العبارة، في سياقها الإقليمي والدولي، لا تعكس فقط موقفًا مبدئيًا داعمًا للحوار اليمني–اليمني، بل تشير إلى تحوّل نوعي في مساعي دولة عظمى باتت ترى أن الحوار الداخلي في اليمن لم يعد مطلبا سياسيًا قابلًا للتأجيل، بل ضرورة استراتيجية تمليها ضرورات الاستقرار الإقليمي، والأمن البحري، وتوازنات النظام الدولي.

من الدعوة إلى الحوار… إلى تصميم مساره:

المثير للاهتمام في البيان الصيني، وكذلك في الموقف الإيراني المتزامن الذي شدد هو الآخر على وحدة اليمن وضرورة الحل السياسي، أن الخطاب لم يتوقف عند الدعوة العامة للحوار، بل انتقل إلى مستوى أعمق يتصل بكيفية إدارة هذا الحوار وتوفير متطلبات نجاحه.
فالتجربة اليمنية مع جولات الحوار السابقة – منذ مؤتمر الحوار الوطني وحتى المسارات التفاوضية اللاحقة – أظهرت بوضوح أن المشكلة لم تكن في غياب الطاولات، بل في هشاشة التصميم، وغياب الضوابط، وترك الحوار رهينة للضجيج الإعلامي، وعدم مراعاة الطبيعة النفسية والثقافية والسياسية للأطراف المنخرطة.
ومن هنا يمكن فهم لماذا وصفت بكين تصميم الحوار القادم بعبارة “بطريقتها الخاصة” وذلك لكونه انتقالًا من الدعوة الأخلاقية للحوار إلى الهندسة العملية لمساره، حيث لا يُنظر إلى الحوار بوصفه غاية بحد ذاته، بل كأداة لإنتاج استقرار قابل للاستمرار.

لماذا فشلت جولات الحوار السابقة؟:

المتتبع بعمق لجولات الحوار السابقة في عدد من العواصم (جنيف، الرياض، تبوك ، القاهرة، الأردن، الدوحة…) يمكن ان يلاحظ:
أولًا، ان الأطراف اليمنية عادة ما تدخل أي حوار وهي محمّلة بثقافة شرعية متعالية، لا ترى في الحوار مساحة للتسوية، بل ساحة لإثبات الذات ونفي الآخر. فكل طرف ينطلق من تصور أنه الممثل الوحيد للشرعية السياسية، وهو ما يحوّل الحوار المفتوح إلى صراع صفري.
ثانيًا، ان الحرب الطويلة أدت إلى إنتاج خطاب مشبع بالثأر والرمزية، حيث تُستدعى ذاكرة الدم والضحايا فور أي نقاش سياسي، ما يجعل طاولة الحوار امتدادًا للصراع لا قطيعة معه.
ثالثًا، ان معظم المكونات تعتمد على أدوات تعبوية لا تفاوضية، سواء كانت دينية أو مناطقية أو ثورية، وهي أدوات لا تصلح لإدارة تسوية سياسية مركّبة، بل تتحول داخل القاعة إلى وسائل ضغط وكسر إرادة.
رابعًا، ان الاعلام في الحالة اليمنية، لا يعمل بوصفه ناقلًا محايدًا، بل كطرف مباشر في الصراع، ومع غياب الضبط، تتحول التسريبات والتصريحات إلى عنصر تفجير للحوار بدل دعمه.
خامسًا، ان القواعد الشعبية التي تعيش حالة إنهاك وغضب، غالبا ماتجدها تبحث عن انتصار معنوي أكثر من بحثها عن تسوية واقعية، ما يجعل أي تنازل سياسي عرضة للرفض والتمرد الداخلي.
سادسًا، ان الحوارات السابقة كانت تفتقر إلى مرجعية إجرائية واضحة لحسم الخلاف، الأمر الذي كان يؤدي إلى توقفها عند أول معضلة حقيقية.

كيف يمكن تحصين الحوار من الإخفاق؟: (ملامح المنهج الصيني):

إذا كانت الصين قد قررت تعزيز محادثات السلام “بطريقتها الخاصة”، فمن المنطقي افتراض أنها تسعى إلى تجاوز هذه المعيقات عبر تصميم مسار مقنّن لا يترك الحوار رهينة للانفعال والارتجال.
ومن هنا فان انطلاقة الحوار كان يفترض ان تبدا بعقد جلسات أولية مغلقة تُخصص لعرض الرؤى والمطالب والخطوط الحمراء لكل طرف، دون الدخول في سجال أو تفاوض مباشر، بهدف جمع المادة السياسية الخام في بيئة محمية من الضغط الإعلامي.
بعد ذلك، تُحال هذه الرؤى إلى مسار فلترة دستورية وقانونية، تستند إلى دستور الجمهورية اليمنية ومخرجات الحوار الوطني، بحيث يُستبعد كل ما يتعارض مع منطق الدولة ووحدتها، ويُعاد ضبط سقوف التفاوض ضمن إطار وطني جامع.

البرلمان والدستور كضمانة جامعة:

في بيئة منقسمة ومسلحة، لا يمكن لأي حوار أن ينجح من دون مرجعية عليا غير خاضعة للمساومة. وهنا يبرز دور الدستور ومجلس النواب ليسا كأطراف سياسية، بل كحَكَمٍ جامع يمنح العملية التفاوضية شرعية داخلية ويزوّد الدول الراعية بمسوّغ قانوني لفرض المخرجات.
فتحكيم الدستور لا يعني تجاهل الوقائع الجديدة التي فرضتها الحرب، بل يعني إعادة إدماجها ضمن منطق الدولة، بدل تكريسها كشرعيات موازية تهدد وحدة الكيان السياسي.

ضبط المناخ العام للحوار:

ومن بين العناصر الحاسمة الواجب تبنيها في هذا النموذج، فرض ضوابط صارمة على الخطاب الإعلامي الموازي للحوار، عبر لائحة سلوكية تلتزم بها جميع الأطراف، وتربط استمرار المشاركة بالالتزام بها، بما يحد من الشعبوية والابتزاز الإعلامي.
كما يتطلب المسار المقنّن تجزئة الملفات التفاوضية، وتحديد جداول زمنية واضحة لكل مسار، مع الاتفاق المسبق على آلية لكسر الجمود عند تعثر النقاش، سواء عبر إحالة الخلاف إلى البرلمان أو إلى هيئة تحكيم دستورية.

وفي الأخير يمكن القول إن الإشارة الصينية إلى «تعزيز محادثات السلام بطريقتها الخاصة» لا تبدو وعدًا غامضًا بقدر ما هي إعلان عن مبادرة مختلفة، تسعى إلى تجاوز أخطاء الماضي بدل تكرارها. فالحوار اليمني–اليمني، إن لم يُصمَّم بعناية، سيظل يدور في الحلقة ذاتها من الفشل والانتكاس.
لم يعد السؤال المطروح هو: هل يحتاج اليمن إلى حوار؟ بل بات السؤال الأكثر إلحاحًا: هل نمتلك الشجاعة لتصميم هذا الحوار بطريقة تمنحه فرصة حقيقية للنجاح؟

Related Articles

Leave a Reply

Back to top button
en_USEnglish