مقالات الرأي

حروب بالوكالة: القرار أجنبي، والدم محلي

بقلم: د. أحمد بن إسحاق

مثّلت مواجهات حضرموت الدامية اليوم مشهدًا جديدًا من التصعيد، يعكس كيف يتحول الصراع إلى ساحة لتصفية حسابات نفوذ دولي، بينما يدفع المواطن المحلي الثمن.
فقد سُفكت اليوم في حضرموت دماء غالية لخيرة الرجال من طرفين يفترض أنهما في خندق واحد، في مشهد لا يمكن التعامل معه كحادثة اعتيادية أو اشتباك محدود، بل كجرس إنذار خطير يؤكد أن اليمن – والجنوب على وجه الخصوص – بلغ مرحلة لم يعد يحتمل فيها مزيدًا من المكابرة أو إدارة الصراع عبر الوكلاء.

إن الأولوية الملحّة اليوم ليست تسجيل المواقف ولا تثبيت مناطق نفوذ، بل وقف التصعيد وحقن الدم فورًا. فكل ساعة تأخير تعني تعميق الشرخ المجتمعي، وتآكل ما تبقى من الثقة، وانزلاقًا متسارعًا نحو صراع داخلي لا يخدم أحدًا، ويهدد الأمن الإقليمي برمّته.

المقلق في مشهد اليوم ليس فقط سقوط الضحايا، بل لغة التبرير التي رافقت التصعيد. فقد رأينا كيف جرى توظيف بيانات فضفاضة لتبرير استخدام الطيران الحربي، وهو استخدام خرج بوضوح عن إطار خطة التدخل المعلنة، تارة تحت لافتة «مكافحة الإرهاب وتأمين المنطقة»، وتارة أخرى بذريعة «منع قطع الإمدادات أو تعطيل الخدمات». وفي المقابل، جرى تبرير التصعيد بخطاب الدفاع عن «الحقوق الشعبية في تقرير المصير وتحقيق الحكم الذاتي»، أو الحديث باسم «الشرعية الدستورية والتفويض الشعبي».

غير أن الواقع الصادم يقول شيئًا آخر:
الشعب، مالك السلطة الذي يتحدث الجميع باسمه، صوته مغيّب، وهو الضحية الأولى والأخيرة لهذا الصراع. لا يملك قرار الحرب ولا السلم، ولا يشارك في رسم المسارات، لكنه يدفع ثمنها دمًا، وأمنًا، ومعيشةً، ومستقبلًا. وهذا المسار لا يقود إلا إلى مزيد من التدهور الأمني، وتعميق المعاناة الإنسانية، وتهديد السلام في اليمن والمنطقة والعالم.

من هنا، فإن المسؤولية التاريخية تفرض على دول التحالف وإيران الانتقال من إدارة الخلافات عبر الأطراف المحلية إلى فتح حوار سعودي–إماراتي–إيراني عاجل وصريح، يعالج جذور التباين في الرؤى، بدل ترك كلفته تُدفع من دم اليمنيين واستقرار مناطقهم.
لكن وقف النار وحده لا يكفي. فالمشهد اليمني برمته بات بحاجة إلى مراجعة استراتيجية شاملة، تبدأ بسؤال الواقعية قبل سؤال النوايا:
هل ما زال شعار «قادمون يا صنعاء» يعكس هدفًا قابلًا للتحقق، أم أصبح خطابًا تعبويًا تجاوزه الواقع العسكري والسياسي؟
وهل ما زال القرار الأممي 2216 صالحًا كمرجعية حصرية بعد عقد من التحولات الجذرية على الأرض؟
وأين تقف اتفاقية نقل السلطة، واتفاق الرياض، من واقع الانقسام، وتعدد مراكز القوة، وتحول «الشرعية» نفسها إلى بنية إدارية بلا سيادة فعلية؟

إن الإصرار على أدوات سياسية لم تعد تنتج سوى الجمود، لا يقرّبنا من الحل، بل يطيل أمد الأزمة.

وفي الجنوب، لا يمكن القفز فوق الاستحقاقات الواقعية. فمطالب عودة التحكم الفعلي للجنوبيين في القرارات السيادية المتعلقة بالجنوب، والصيغة العادلة للشراكة مع الشمال، ومطلب الحكم الذاتي في حضرموت والمهرة، لم تعد شعارات هامشية، لكنها في الوقت ذاته مشاريع ناقصة وخطِرة إذا لم تُؤطر ضمن إعلان دستوري واضح، ورؤية سياسية جامعة، وضمانات أمنية، وتفاهمات إقليمية تمنع تحويلها إلى بؤر صراع جديدة.

لقد آن الأوان أن تتوقف الأطراف المتدخلة في اليمن عن التعامل مع الملف اليمني كجزئيات منفصلة، يتفاعل كل طرف معها بما يخدم أهدافه الخاصة، فينتج عن ذلك مشاريع متناقضة، وتعميق للانقسام، واستدامة للصراع. المطلوب هو الانتقال إلى رؤية موحدة تراعي المصالح المشتركة للأطراف المحلية والإقليمية والدولية، وتتعامل مع معطيات الواقع كما هي، لا كما يُراد لها أن تكون، بعيدًا عن المكابرة والتمترس خلف شعارات غير منسجمة مع الواقع.

ولا يمكن قراءة ما يجري في حضرموت اليوم بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي الأوسع. فالتصعيد المتزامن مع الاتفاقات السعودية–الإيرانية، واتفاق مسقط الذي أُفرج بموجبه عن آلاف الأسرى، يكشف مفارقة خطيرة: مسارات تهدئة إقليمية تتقدم على الطاولة، فيما تُترك الساحات المحلية مفتوحة للاشتعال. كما أن تصعيد بعض القوى المحلية ضد شركائها المفترضين في «الشرعية» يعكس ارتباكًا في مراكز القرار، واختلالًا في إدارة التوازنات، لا يمكن فصله عن إعادة ترتيب النفوذ في المنطقة بعد سنوات من الاستنزاف.
وفي السياق الأوسع، يأتي اليمن اليوم كحلقة ضمن سلسلة أزمات متشابكة: تصعيد إيراني–إسرائيلي مفتوح على احتمالات خطرة، اشتداد المنافسة الأمريكية–الصينية على الممرات الحيوية والأسواق، صراع نفوذ محتدم في السودان، وجدَل دولي حول الاعتراف بكيانات جديدة مثل «أرض الصومال»، في مقابل تأكيدات مجلس الأمن المتكررة على وحدة اليمن. كل ذلك يؤكد أن اليمن لم يعد ملفًا منفصلًا، بل ساحة اختبار لتوازنات دولية وإقليمية متحركة، وأن أي إدارة ضيقة أو مجزأة لهذا الملف ستجعل منه وقودًا لصراعات أكبر، بدل أن يكون جزءًا من حلولها.

إن الحقيقة التي يجب الاعتراف بها اليوم، دون مواربة، هي أن الصراع في اليمن لم يعد صراعًا أيديولوجيًا بين تيارات سياسية، بل صراع نفوذ دولي يُدار عبر وكلاء محليين، يتحدثون باسم الشعب، بينما الشعب مغيّب ومخدَّر بجرعات الشحن العاطفي وبيانات التبرير غير المستندة إلى قواعد دستورية واضحة.

ولهذا، فإن أي حديث عن سلام دائم لا يمكن أن ينجح في ظل أوصياء دوليين منقسمين، يعتمدون رؤى انتقائية ومتباينة للأطراف المتصارعة، وهو ما حوّل اليمن إلى جزر من سلطات أمر واقع غير معززة بتفويض شعبي ديمقراطي جامع. إن السلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر رعاية دولية محايدة، مجردة من الذاتية والارتباط التخادمي المباشر مع أطراف الصراع، تنحاز لسلام شامل وعادل لكل اليمنيين، ويراعي في الوقت نفسه مصالح المحيط الجغرافي والمجتمع الدولي.

ويمكن أن ينطلق هذا المسار عبر منصتي حوار:
الأولى منصة حوار دولية تجمع كل الأطراف الدولية المؤثرة والمتأثرة بالصراع اليمني، تُطرح فيها جذور الصراع، والمخاوف، والرؤى الممكنة للحلول، ثم تُوحَّد تلك الرؤى في إطار واحد يقوم على القواسم المشتركة والحوار الجاد، وصولًا إلى رؤية موحدة للحلول الممكنة، ثم الانتقال إلى بحث أدوات التنفيذ والضمانات وآليات المراقبة.
وعندها فقط يصبح للحوار اليمني–اليمني معنى وجدوى.
أما دون ذلك، فإن التفاوض بين أطراف يمنية لم يُحسم أصل خلاف رعاتها الإقليميين والدوليين، سيظل معه مطلب السلام الدائم ضربًا من الخيال السياسي.

إن ما شهدناه اليوم في حضرموت يلخّص المأساة:
القاتل يمني، والمقتول يمني، أما القرار فليس يمنيًا.
والتاريخ، كما هو معلوم، لا يحاسب على النوايا… بل على النتائج.

Related Articles

Leave a Reply

Back to top button
en_USEnglish