سلطة الأمر الواقع: قراءة قانونية في المفهوم وحدوده
بقلم: د. أحمد بن إسحاق
في حالات الأزمات السياسية العميقة، وحين تتعطّل مؤسسات الدولة أو تغيب سلطاتها الدستورية، يبرز في الفقه الدستوري والقانون الدولي مفهوم يُعرف بـ«سلطة الأمر الواقع». وهو مفهوم كثير التداول، لكنه غالبًا ما يُساء فهمه أو توظيفه سياسيًا خارج سياقه القانوني الصحيح.
سلطة الأمر الواقع، وفق التعريف الفقهي، هي سلطة تنشأ بفعل السيطرة الفعلية على إقليم وسكان، وممارسة بعض أو كل وظائف الحكم، دون أن تستند إلى تفويض دستوري أو انتخابي مكتمل. ويُقرّ بها الفقه القانوني لا بوصفها سلطة شرعية، بل بوصفها واقعًا قائمًا يُتعامل معه اضطرارًا، منعًا للفوضى وحمايةً لاستقرار المعاملات وحياة الناس اليومية.
هذا الإقرار لا يُعد اعترافًا سياسيًا، ولا يمنح مشروعية، ولا يُنشئ حقًا سياديًا. فهو توصيف واقعي مؤقت، هدفه الأساس حماية المجتمع، لا مكافأة المتغلب. لذلك يفرّق الفقه بوضوح بين «شرعية التأسيس» التي تقوم على الدستور والانتخاب، وبين «مشروعية التصرفات الضرورية» التي تُقبل استثناءً في ظل الفراغ أو الانهيار.
ومن هنا، فإن تعامل المواطنين مع سلطة قائمة بحكم الأمر الواقع لا يُعد في ذاته موقفًا سياسيًا ولا إعلان ولاء، طالما كان هذا التعامل محصورًا في إطار الضرورة المعيشية، كالأمن، والخدمات، والمعاملات اليومية. فالقانون لا يُحمّل الأفراد تبعات الفراغ السياسي، ولا يطلب منهم دفع ثمن صراعات لا يملكون أدوات حسمها.
وقد عرف الواقع اليمني نماذج متعددة استُحضرت فيها هذه النظرية. ففي مراحل سابقة، رأى البعض أن تنظيم القاعدة، إبّان سيطرته على مناطق من حضرموت، كان يمثل سلطة أمر واقع بحكم سيطرته الفعلية آنذاك. وفي مراحل أخرى، يرى البعض أن جماعة الحوثي، بما تملكه من سيطرة ميدانية وإدارية في مناطق واسعة، تُصنَّف ضمن هذا الإطار الواقعي. كما يرى البعض أن المجلس الانتقالي الجنوبي، في مناطق نفوذه، يمارس وظائف تجعل توصيفه كسلطة أمر واقع محل نقاش قانوني. بل إن هناك من يذهب إلى اعتبار أن سلطة مجلس القيادة الرئاسي نفسها، لكونها غير منتخبة انتخابًا مباشرًا وفق نصوص الدستور، تُناقَش من زاوية التوصيف الواقعي لا التفويض الشعبي.
والمهم هنا أن هذه الآراء المختلفة لا تُعبّر بالضرورة عن موقف الكاتب، بقدر ما تعكس اتساع مفهوم سلطة الأمر الواقع وقابليته للتطبيق على حالات متعددة، تبعًا لزاوية النظر ومعايير التقييم. فالقانون لا يُصدر أحكامًا سياسية، بل يقدّم أدوات تحليل لفهم ما يجري، والتمييز بين الواقع القائم والشرعية المنشودة.
وتبقى نظرية سلطة الأمر الواقع مقيدة بضوابط صارمة: المؤقتية، والضرورة، وعدم إنتاج الشرعية. وأي محاولة لتحويل هذا التوصيف القانوني إلى تفويض سياسي، أو استخدامه لتكريس واقع دائم، تمثل خروجًا على جوهر النظرية وتحريفًا لوظيفتها.
وخلاصة القول يمكن ان نقول ان سلطة الأمر الواقع ليست حكمًا بالقيمة، ولا اصطفافًا مع طرف، بل توصيف قانوني لمرحلة استثنائية. وهي وُجدت لحماية الناس من الانهيار، لا لإعادة تعريف الغلبة باعتبارها حقًا، ولا لتعليق فكرة الدولة إلى أجل غير مسمى. وبين الواقع والشرعية، يظل الفارق قائمًا، مهما حاولت السياسة طمسه.


