مقالات الرأي

من الإصلاحات إلى الحسم: ما هي ورقة بن بريك لكسر جمود المفاوضات؟

بقلم: د. أحمد بن إسحاق

في الأيام الأخيرة، عاد الملف اليمني إلى نقطة الصفر. الجولة الأخيرة من المباحثات في سلطنة عُمان انتهت – كما توقع كثيرون – إلى الطريق ذاته: خلافات ثابتة، غياب توافق، وعودة لغة «التعقيد» التي باتت ملازمة لكل جولة تفاوضية. وحتى قرار مجلس الأمن الأخير، الذي علق عليه البعض آمالاً متأخرة، لم يحمل في جوهره أي جديد؛ إذ بدا أقرب إلى تمديدٍ لوضع الحرب القائم منه إلى خطوةٍ لفتح مسار سلام فعلي، ما عمّق الشعور العام بأن مسار المفاوضات يعيش حالة جمود هي الأخطر منذ سنوات.

وسط هذا المشهد الملبّد، تتقدم أسئلة كبرى بلا إجابات: من يقود ملف السلام؟ أين المبادرات الجريئة؟ ولماذا يبدو المسار السياسي متجمداً بينما تظهر بوادر تعافٍ اقتصادي بدأت تلتقط أنفاس الدولة؟ وهل يمكن لليمن أن يواصل السير بعجلة اقتصادية تتحرك بينما عجلة السياسة متوقفة تماماً؟

هنا، يبرز اسم رئيس الوزراء د. سالم بن بريك، ليس باعتباره صاحب نجاحات اقتصادية فحسب، بل كـ أحد الوجوه القليلة التي لا تزال تمتلك رصيداً من الثقة الشعبية ورؤية عملية أثبتتها خطة الإصلاحات. ولعلّ اللحظة اليوم تتطلب أن يتحول هذا الرصيد إلى دور أكبر في ملف السلام، عبر ورقة سياسية قادرة على كسر الجمود الذي ابتلع المفاوضات منذ سنوات.

لقد أثبت بن بريك أن الوعد حين يصدر من رجلٍ صادق، يتحول إلى عمل، وأن الإرادة حين تتجسد في مسؤول يعرف معنى الدولة، فإنها قادرة على إنقاذ اقتصاد كان قاب قوسين أو أدنى من الانهيار الكامل. لقد وفّى الرجل الوفي بما وعد، وسار بثبات في خطة التعافي الاقتصادي، وواجه بشجاعة شبكات النفوذ التي تلاعبت بالعملة، ووقف في وجه الفوضى التي كانت تبتلع مؤسسات الدولة وماليتها العامة. وما تحقق حتى الآن ليس مجرد خطوة اعتيادية، بل خطوة مفصلية أعادت بعض الثقة إلى مؤسسة الدولة وأثبتت للمواطن أنه ما زال هناك من يعمل بإخلاص، وأن الإنقاذ ليس حلماً مستحيلاً متى ما توفرت الإرادة والقرار.

غير أن الإنجاز الاقتصادي – مهما بدا عظيماً – يظل محاطاً بظل ثقيل اسمه (الجمود السياسي فالحرب التي أكلت سنوات العمر ودفنت أحلام الملايين وشتّتت مؤسسات الدولة وأثقلت كاهل كل بيت، ما زالت مستمرة كقدر معلّق، رغم كل الشعارات التي تتحدث عن «قرب السلام» و«نضج المفاوضات». ومن المؤلم أن يتحول السلام إلى عنوان جميل بلا مضمون، وإلى شعار يتردد في المؤتمرات أكثر مما يترسخ في الواقع. وهنا يصبح لزاماً أن يتحول رئيس الوزراء سالم بن بريك – الرجل الذي نجح في الملفات الأصعب – إلى صوت وازن في ملف السلام، وأن يطلق مبادرة جريئة تعيد الروح إلى هذا المسار المتجمد.

إن لحظة الجد قد حانت، وهي لحظة تتطلب أن يفوض بن بريك جزء من صلاحياته التنفيذية لمن يعاونه، حتى يتفرغ لمواجهة (القرار الأهم) في تاريخ اليمن الحديث: قرار وقف الحرب، أو على الأقل كسر الجمود الذي يحيط بهذا القرار. فاليمن اليوم بحاجة إلى قائد يتحدث بصراحة، يواجه الحقائق بلا تردد، ويخاطب العالم والمواطنين بلغة واحدة: لغة الحقيقة. وهذا ما نعرفه عن الرجل: شجاعته الصادقة، وجرأته التي لا تعرف المساومة، وقدرته على تحويل التعقيد إلى وضوح، واليأس إلى أمل، والشلل السياسي إلى حركة.

إن بداية الطريق نحو سلام حقيقي هي إيقاظ المواطن قبل إيقاظ المسؤول. فالشعب الذي دفع الثمن الأكبر للحرب – قتلى بلا عدّ، خدمات منهارة، مؤسسات متهالكة، اقتصاد مستنزف، ونسيج اجتماعي ممزق – يجب أن يعرف بكل وضوح أين يقف اليوم، وما الذي يعرقل مسار السلام، وكيف يُدار مشهد المفاوضات بعيداً عن أعين الناس، وكيف تتحول المصالح الخاصة لبعض الأطراف إلى بوابة لاستمرار النزاع وتعميق المأساة. لقد آن الأوان لأن يخرج صوت رسمي قوي يقول بصراحة ما لم يُقل: من الذي يعرقل، ومن الذي يساوم، ومن الذي يستثمر الحرب كما لو كانت مشروعاً اقتصادياً أو مكسباً سياسياً.

إن الخطاب السياسي اليوم، كما يبدو، محتاج إلى نفس الروح التي حملتها خطة التعافي الاقتصادي: شفافية وثقة وعملية واتزان. يجب أن يواجه الواقع كما هو، بلا تزيين ولا تبرير. عشر سنوات من الحرب تركت ملايين القصص التي تختصر المعاناة: معلمون بلا رواتب يكابدون لإيصال المعرفة، مرضى ينتظرون الكهرباء لحظة ليتنفسوا، شباب يفقدون أعمارهم في طوابير البطالة والوقود، ونساء يقضين الليل في البحث عن ماء نظيف. ومع كل ذلك، تستمر العناوين الدولية في الحديث عن «تقدم في المفاوضات» بينما الواقع يزداد تعقيداً وانسداداً. وهذه الازدواجية تتطلب صوتاً رسمياً شجاعاً يعلن «الحقيقة كما هي» لا كما تُراد.

إن أثر الحرب على البنية الاجتماعية والمؤسسية لم يعد يحتاج إلى تقارير دولية لإثباته. فالدولة التي كانت قادرة على تشغيل مدارسها، ومستشفياتها، ومجالسها المنتخبة، أصبحت تعجز اليوم عن أبسط الخدمات. البرلمان انقسم، السلطات المحلية تشتت، والمواطن تحوّل من صاحب حق إلى «شاهد على الإهمال». وكل ذلك يجعل من أي حديث عن التنمية أو التعافي أمراً غير مكتمل ما لم يُرفَق بخريطة طريق سياسية واضحة وصادقة.

وهنا، يصبح دور سالم بن بريك محوريًا. ليس فقط لكونه رجل دولة أثبت جدارته، بل لكونه امتداداً لإرث حضاري عميق. فشبوة، العاصمة القديمة لمملكة حضرموت، لم تكن يوماً مجرد مدينة، بل كانت مركز حكمة وحكم، ومرجع تحكيمٍ يعود إليه الناس في أكثر المسائل تعقيداً. ذلك التراث الذي علّم العالم أسس التفاوض وفصل النزاعات بعقلانية، يمكن اليوم أن يولد من جديد عبر خطاب سياسي شجاع ومستقبلي يطلقه أحد أبناء هذه الأرض.

إن اليمن لا يمكن أن يبقى رهينة لطاولات مفاوضات مغلقة، ولا لآراء تتناطح في غرف الفنادق. لقد آن الأوان للعودة إلى الأساس الديمقراطي الذي يضمن التمثيل الشعبي الحقيقي: البرلمان. وليست هناك استحالة في عقد جلسة مشتركة لجميع الاعضاء في بلد محايد، يستلم فيها المجلس – بعلنية وشفافية – مرافعات الأطراف: الجنوب، حضرموت، صعدة، وكل القضايا الوطنية. جلسة تنتخب عبر التصويت لجنة تحكيم محايدة تضع حداً للنزاع، مع ضمانات دولية لتنفيذ الحكم. هذه الآلية ليست غريبة عن اليمن، بل هي جوهر فلسفة التحكيم اليمنية التي انتقلت عبر القرون إلى العالم.

فما الذي يمنع اليوم أن نُعيد الاعتبار لمنهجٍ ابتكره أجدادنا؟ لماذا نستسلم لجولات حوار عقيمة تحتجز البلاد سنوات أخرى في الفراغ؟ إن شعوباً أقل تاريخاً وتجربة استطاعت أن تخرج من الحروب بتوافقات وطنية عبر برلمانات منتخبة، فلماذا نتردد نحن، ونحن أبناء أرض أنجبت ابن خلدون، الحضرمي الذي كتب للعالم نظرياته الخالدة في الاجتماع والسياسة والحكم الرشيد؟

إن السلام في اليمن ليس مجرد خياراً سياسياً، بل ضرورة وجودية. هو مستقبل 40 مليون إنسان يريدون حياةً عادية: دولة تحترمهم، مؤسسات تعمل، خدمات لا تُذلّهم، مدارس لا تغلق أبوابها، وكهرباء لا تغيب ليلة كاملة. هذه ليست رفاهيات، بل حقوق بديهية.

ولهذا، فإن قدرة رئيس الوزراء على صناعة الفارق في ملف السلام ليست خيال وتمني، بل إمكانية حقيقية مبنية على ما أثبته من كفاءة وجرأة في مواجهة ملفات اقتصادية معقدة. وإذا كان قد نجح في وقف انهيار العملة وفي فرض الانضباط على الإيرادات الوطنية، فبوسعه – وبوسع فريقه – أن يصنع تحولاً سياسياً يمنح اليمنيين بداية طريق للشفاء.

لقد تعب اليمنيون من الشعارات ومن البيانات التي لا تغيّر شيئاً. ما يريدونه اليوم هو خريطة طريق سياسية واضحة، تُعلن بصوت صادق، وتُنفذ بلا تردد، وتُبنى على المشاركة الشعبية لا على الصفقات المغلقة. الطريق إلى السلام لن يُفتح إلا حين يصبح الشعب هو الحكم، وحين يكون صوته هو المرجع، وحين تُعاد للدولة هيبتها، وللمؤسسات دورها، وللمواطن كرامته.

وما لم يحدث ذلك قريباً، فإن التاريخ لن يرحم أحداً، ولن تُنسى الأخطاء التي تُرتكب بحق هذا الشعب الصابر. لكننا نؤمن أن لحظة التحول ممكنة، وأن السلام ليس بعيداً، وأن اليمن قادر أن ينهض مرة أخرى، إذا وجد من يمتلك الشجاعة ليقول الحقيقة، ويضع الخريطة، ويقود الطريق. وإذا كان الاقتصاد قد وجد من ينقذه… فإن السلام كذلك ينتظر من ينقذه.

Related Articles

Leave a Reply

Back to top button
en_USEnglish