مقالات الرأي

من قبض؟ من صرف؟ ومن تستّر؟ حين تصبح “الإيرادات المحررة” لغزًا يُحير الدولة ويُغني المتنفّذين

بقلم: طه بافضل

في زمنٍ تُعاد فيه توريدات الإيرادات إلى البنك المركزي، يصفق البعض وكأننا دخلنا عصر الشفافية. لكن السؤال الذي يُزعج المفسدين لا يزال معلّقًا: ماذا عن الأموال التي لم تدخل خزينة الدولة؟ من قبضها؟ من صرفها؟ ومن تواطأ بالصمت؟

محافظ البنك المركزي نفسه قالها بلا مواربة: 75% من الإيرادات تُدار خارج الأطر الرسمية، عبر 147 جهة لا تخضع لأي رقابة. محافظات تتعامل مع المال العام كأنه “صندوق خاص”، تصرف منه وتطالب البنك بتغطية العجز، وكأننا في بازار لا دولة.

وهنا يأتي السؤال الذي يُحرج الجميع: هل تستطيع دولة بن بريك التحقيق في هذا؟ هل تملك الجرأة على فتح ملفات الإيرادات المختفية، أم أن “التحقيق” محجوز فقط للخصوم السياسيين؟ هل ستُحاسب من صرفوا المليارات خارج القانون، أم أن الدولة تُدار بمنطق “التحالفات أولًا، والمحاسبة لاحقًا… وربما أبدًا”؟

في المحافظات المحررة، الفساد ليس خللاً إداريًا، بل نظام موازٍ يُعيد إنتاج نفسه عبر شبكات مصالح، عقود طاقة مشبوهة، وتواطؤ مع تجار الصرف والنفط. وكلما تحسّن سعر الريال، ارتفعت أسعار السلع، وكأن السوق يُعاقب المواطن على تحسن العملة.

فهل نكتفي بالتصفيق لإعادة التوريد؟ أم نطالب بكشف الحساب الكامل: من قبض؟ من صرف؟ ومن سكت؟

الدولة والسلطة المحلية… شركاء أم متواطئون؟
حين نتحدث عن المال العام، يبدو أن الفرق بين “الدولة” و”السلطة المحلية” ضبابيٌ حدّ التبخر. “الدولة” تحاسب المواطن، تفرض الضرائب، وتُلوّح بالقانون. أما “السلطة المحلية”، فتتصرّف بالإيرادات كأنها إرث عائلي، تُصرف على الولاءات، المهرجانات، والصمت.

المفارقة أن كلّ طرف يرمي المسؤولية على الآخر: البنك المركزي يتذرّع بتجاهل المحافظات، والمحافظات تتذرّع بعدم استجابة البنك. والنتيجة؟ إيرادات تُصرف بلا رقابة، ومواطنٌ يدفع الثمن مرتين: مرة بالغلاء، ومرة بصمته.

في هذا المشهد، لا تنفع التعامي عن الحقيقة: هناك منظومة فساد مشتركة، تتجاوز الأطراف السياسية، وتتحصّن تحت شعار “الاستثناءات الوطنية”.

لا حصانة للفساد… المحاسبة تبدأ من الداخل
لسنوات، انصبّ خطاب المحاسبة على صنعاء: الحوثي ينهب، الحوثي يبتز، الحوثي يفتعل الأزمة. لكن السؤال الأخلاقي اليوم هو: وماذا عن المفسدين في المناطق المحررة؟ أولئك الذين جمعوا الثروات وهم يرفعون شعار “تحرير الدولة”، ثم حوّلوها إلى شركات خاصة.

إذا أردنا فعلاً دولة قانون، فالمحاسبة لا تُفرّق بين محتلّ ومحرّر. كلاهما يمكن أن ينهب، وكلاهما يجب أن يُحاسب.

لقد حان الوقت أن يخرج الحديث من شعارات المعارك إلى أسئلة الجرأة: من صرف؟ من تستر؟ ومن استفاد؟ فإعادة التوريد لا تكفي إن لم تُعاد الثقة، والمواطن لا ينتظر رفع علم، بل كشف حساب.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button
en_USEnglish