الرقص على جثث الدولة: حين تتكفل قوى الفساد بإجهاض كل بارقة إنقاذ

بقلم: د. احمد بن اسحاق
في وطنٍ تآكلته الانقسامات، وتكفّلت سلطاته بتقويض مؤسساته، تتكرر المأساة بشكل هزلي أسود. التظاهرات الشعبية التي انفجرت في عدن لم تكن سوى صورة من صور الانهيار العام، بينما كان “المجلس الرئاسي” مشغولاً بتغيير الوجوه، لا بتغيير المنهج، وبإقالة وتعيين دون أدوات ولا صلاحيات.
رئيس الوزراء الجديد، سالم بن بريك، ما إن بدأ بتقديم خطة إنقاذ جادة حتى وجد نفسه محاطًا بفريق حكومي فُرض عليه، غير متجانس، كثير التخاذل، عميق الارتباط بقوى النفوذ. ورغم ذلك، أطلق برنامجه الإصلاحي بشجاعة، واضعًا تفعيل أدوات الرقابة ومكافحة الفساد كمرتكزٍ أساس في خطته ذات المائة يوم. لكن هذه المبادرة قوبلت بموجة مضادة عنيفة من المنظومة المتضررة من الشفافية، وعلى رأسها: المجلس الرئاسي، مجلس النواب، مجلس الشورى، والانتقالي، بل وحتى بعض أطراف السلطة المحلية.
المجلس الرئاسي… صمت مدوٍ وعجز مؤسسي
بارك رئيس المجلس الرئاسي خطة رئيس الوزراء في العلن، لكنه لم يفعل شيئاً في الواقع. بل وُضع رئيس الحكومة أمام حائط مسدود حين صمت الرئاسي عن منع لجان مجلس النواب، وعندما أُجهضت بوابة الترشيح لهيئة مكافحة الفساد في اليوم التالي لإطلاقها، لم ينبس الرئاسي ببنت شفة، ولم يدعم تنفيذ أدنى متطلبات خطة الإنقاذ الرقابية.
مجلس النواب… مؤسسة مأزومة تتقاذف الفشل
مجلس نواب انتهت شرعيته منذ ربع قرن، نصف أعضائه تُوفي، والآخر غادر إلى صنعاء. ورغم ذلك يصرّ على الاستمرار تحت ذريعة “تسيير الأعمال”. شكّل لجانًا رقابية، فتم طردها من قِبل المجلس الانتقالي – شريكه في السلطة – دون أي حماية تُذكر من السلطة المحلية أو الحكومة. لكن بدلًا من الوقوف بشجاعة لتحمّل مسؤوليته، أصدر بيانًا هزيلاً حمّل فيه الحكومة كل شيء، ناسياً أن التقاعس الحقيقي كان من عنده، ومن تحالفاته المتناقضة مع شركاء يرفضون الرقابة.
مجلس الشورى… هيئة غائبة عن الشورى
كان من المفترض أن يكون مجلس الشورى في صدارة حماية خطة الإنقاذ، عبر المضيّ في تشكيل هيئة مكافحة الفساد. لكن، كما هو متوقع، اختُطفت اللحظة، وتم إيقاف القرار بمجرد لقاء سريع بين رئاسة المجلس ورئيس مجلس القيادة. وتبخرت البوابة الإلكترونية التي كانت أملًا في التغيير، وكأن شيئًا لم يكن.
السلطة المحلية بحضرموت… شلل تام وتنازع سلطات
منذ 2016، والمجلس المحلي في حضرموت مغيّب، وصلاحياته مختزلة في المحافظ، الذي غادر منذ أشهر إلى الرياض بلا مسألة. أما الوكلاء المعتكفون، فيكتفون بتبادل الاتهامات وتحميل المحافظ المسؤولية عن فشل الخدمات، وعلى رأسها الكهرباء. هذا بينما يواصل أبناء حضرموت معاناتهم اليومية في الظلام، نتيجة انقطاع يصل أحيانًا إلى 7 ساعات، مقابل ساعة تشغيل ونصف!
الحكومة… مقيدة اليدين وسط شبكة من المعطّلين
رغم الجهد الواضح الذي يبذله رئيس الوزراء ووزير المالية لتقليل النزيف وتقديم رؤية إنقاذ وطنية، إلا أن المحيطين بهما من وزراء، بعضهم تابع لأطراف فوضوية كالانتقالي، يصرّون على تعطيل الخطط، أو على الأقل تجاهلها. فكيف لخطة حكومية أن تنجح ووزير الإدارة المحلية لا يحرّك ساكنًا لتفعيل المجالس المحلية؟ وكيف لوزير الكهرباء أن لا يقدم تقارير شفافة عن احتياجات الوقود؟ وكيف لوزراء الانتقالي أن يكونوا جزءاً من الحكومة، بينما مكونهم السياسي يطرد لجان الرقابة؟!
وما زاد الطين بلّة أن موارد الغاز في بلحاف لا تزال متوقفة، لا بسبب الحرب، بل بسبب سيطرة إماراتية – انتقالية على الميناء، في ظل غياب أي تحرّك رسمي لبيع الغاز محليًا لتخفيف معاناة الناس. وبينما تصرف رواتب الوزراء وكبار المسؤولين بالدولار بسعر صرف وهمي، يصرف الموظف العادي بالريال المنهار، وبنفس الأرقام القديمة.
المجلس الانتقالي… شريك سلطة أم خصم للرقابة؟المجلس الانتقالي يتفنن في لعب دور مزدوج: يشارك في الحكومة والرئاسي، لكنه يرفض تنفيذ التزاماته، بل يُجهض قرارات الدولة. من تعطيل هيئة مكافحة الفساد، إلى طرد لجان النواب، إلى رفض توريد الموارد، إلى الإنفاق منها دون شفافية، وكل ذلك في ظل صمت مدوٍّ من الشركاء الآخرين.
بين العجز والمناكفات … الشعب يحتضر
العملة تنهار، الكهرباء منهارة، المؤسسات معطّلة، الثقة منعدمة، والأمل في التغيير يتلاشى مع كل يومٍ يمر. خطة الإنقاذ التي أطلقها رئيس الحكومة تموت في المهد أمام جرافات الفساد، وتواطؤ الكبار، وتكريس العبث.
ما العمل؟
1. منح رئيس الوزراء صلاحية تشكيل فريق حكومي متجانس ينسجم مع برنامجه.
2. محاسبة من يعطل الرقابة أو يرفض توريد الإيرادات إلى البنك المركزي.
3. إعادة تفعيل المجالس المحلية بصيغ انتقالية ريثما تتم الانتخابات.
4. إطلاق هيئة مستقلة لمكافحة الفساد بشفافية تامة ومشاركة شعبية.
5. إعادة تصدير الغاز أو بيعه محليًا بأسعار مدعومة لصالح الشعب لا الأفراد.
6. إيقاف العبث برواتب كبار المسؤولين وربطها بسعر الصرف الحقيقي.
خاتمة:
لقد آن أوان مواجهة الحقيقة المرة: الدولة ليست ضحية فقط لقوى انقلاب، بل أيضًا لسلطة شرعية مشلولة، تقاتل فيها أقلية شريفة لإحياء ما يمكن إنقاذه، بينما تحاصرها شبكة فاسدة من أعلى الهرم إلى أدناه. إن لم نتدارك الأمر، فسيفتح الباب لسيناريوهات أكثر ظلمةً مما نحن فيه.
د. احمد بن اسحاق