مقالات الرأي

قراءة في أزمة المؤسسات اليمنية وتحوّلات أدوات الحكم في زمن الصراعات

بقلم: محمد سالم بن حمدين

في حادثة لا تخلو من الدهشة بل ومن مرارة السخرية، شاهد غالبية الشعب اليمني مجلس النواب وهو يستيقظ من سباتٍ طويل ليظهر فجأة بخبر اجتماع له عبر تطبيق “قوقل مِيت”، وقبلها شهِدنا مشادة علنية بين أعضاء في المجلس إثر قيام المهندس محسن باصره نائب رئيس المجلس وعضو الكتلة البرلمانية للتجمع اليمني للإصلاح، وممثل الدائرة (141) بحضرموت -والتي أسكن فيها وهو الأمر الذي دفعني لكتابة هذا المقال- بحذف زميله الدكتور شوقي القاضي من “قروب واتس آب” خاص بمداولات شؤون مجلس النواب! ما بدا في ظاهره فعلاً تافِهًا، يخفي في طياته تحوّلاً مقلقًا في أدوات الحكم، من مؤسسات دستورية إلى منصات تواصل اجتماعي، غير محكومة بأي إطار قانوني او رقابي.

إن ما جرى لا يجب أن يُنظر إليه كواقعة طارئة، بل كحالة نموذجية تستحق أن تُدرَس بوصفها سابقة قانونية وإدارية في أساليب العمل التشريعي المؤسسي عند الأزمات. فحين تتحول أدوات التواصل الاجتماعي او منصات الإتصال المرئي إلى قنوات لاتخاذ القرار داخل مؤسسات سيادية، فإننا أمام تحوّل غير مسبوق في بيئة العمل الحكومي، يستوجب اهتمام فقهاء القانون الدستوري والإداري، وباحثي السياسات العامة والحكومات الرقمية. إنها لحظة تفرض فتح أفق بحثي جديد، يُعنى بتحليل “التواصل الرقمي غير المنظم كأداة حكم”، ورسم حدود شرعيته، وآثاره على الإجراءات الرسمية، وشرعية القرار، وسرّية المداولات، التي تُعد من ركائز المؤسسات السيادية.

قد نظن اليوم أننا نسخر أو نبالغ، لكن كما يعبر أمين معلوف: “أكثر اللحظات عبثًا في التاريخ، تبدأ غالبًا بنكتة وتنتهي بكارثة”. فقد يرى البعض أن ما حدث مجرد خلافًا شخصيًا لا يستحق النقاش، لكن في فلسفة الدولة، ليست خطورة الظواهر في حجمها بل في دلالاتها. في ذات السياق، كتب فرانز فانون “أخطر ما يصيب شعبا أن يتشابه وجه السلطة مع وجه الهزل”، وهذا تمامًا ما يحدث لمجلس النواب اليمني، إذ بات يُدير المؤسسة التشريعية في البلاد عبر تطبيق مراسلة؛ بلا لوائح معلنة، ولا سجلات موثقة، ولا رقابة مؤسسية فاعلة. فمن المتعارف عليه أن مجلس النواب، بوصفه مؤسسة دستورية، يفترض أن يمارس وظائفه عبر آليات رسمية مهنية: تشريع، تصويت، رقابة، مساءلة. لكن ما جرى -بصرف النظر عن الأشخاص- يكشف فراغًا قانونيًا صارخًا، ويثير تساؤلات حول مصير المؤسسات في زمن التحلل السيادي.

يبرر رئيس مجلس النواب، الشيخ سلطان سعيد البركاني عملية الحذف بوجود “توافق” بين الأعضاء، يجيز حذف الرسائل الخارجة عن شؤون المجلس، بل وحذف أصحابها إن تكرر الأمر، وأن هذا الإجراء قد تم مسبقاً! غير أن هذا التبرير، مهما بدت نواياه تنظيمية، إلا أنه يفتقر للغطاء المؤسسي القانوني ويفتح المجال لعده تساؤلات؛ فهل هنالك لائحة تنظيمية أُقرّت رسميًا لممارسة مجلس النواب أعماله عبر الواتس آب، أم مجرد “سياسة قروب” تُدار بمنطق المشرف، لا بمنطق المشرّع؟ وهل حذف الاعضاء او رسائلهم أصبح بديلاً عن الإجراءات التأديبية المعمول بها في قاعات البرلمان؟ في القانون الإداري، لا يُعتد بالنية بل بالشكل! ولهذا، نبّه الفقيه عبد الرزاق السنهوري إلى أن “الشرعية لا تقوم على النوايا بل على الشكل، والسلطة لا تُمارَس إلا عبر قواعد مقررة ومعلومة” فأي تنظيم –حتى لو اتُّفق عليه شفهيًا– لا يكون مُلزمًا إلا إذا أُقرّ عبر مسار قانوني رسمي؛ يوضح الإجراءات، ويحدد المسؤوليات، ويخضع للمساءلة. فإذا كانت مؤسسة تشريعية تُدار فعليًا عبر تطبيق غير رسمي للعمل، فأين قرار اعتماد البرلمان لهذا التطبيق كوسيلة لممارسة العمل؟ وأين تُسجَّل مداولاته؟ ثم ما مصير السرّية وحماية المداولات التي تُعد من صميم سيادة الدولة ممثلة بالبرلمان؟ كيف تُضمن سرية المداولات والتصويت حين تُدار عبر منصة خارجية تخضع لسياسات شركات تجارية لا لأنظمة الدولة؟ إن إدارة مؤسسة سيادية بهذه الطريقة لا تفرغ المجلس من شرعيته فقط، بل تعرّضه للتسريب والاختراق كما شاهدنا ذلك اليوم! وبهذا تُسقط أهم ركن من أركان العمل المؤسسي: السرية.

وفي سياق مستجدات العمل البرلماني، عقدت هيئة رئاسة المجلس ورؤساء الكتل البرلمانية اجتماعاً عبر الاتصال المرئي يوم أمس بتاريخ 12 يوليو 2025، وذلك للتشاور حول مستجدات المرحلة الراهنة ومسائل تتصل بتنشيط اللجان البرلمانية. ورغم الطابع المهني للاجتماع، فإنه لم يُبْنَ على إجراء دستوري أو قرار رسمي يفعّل عمل البرلمان عبر الاتصال المرئي، مما يعكس استمرار نمط التفاعل غير المؤسسي في إدارة السلطة التشريعية، حيث تُدار المهام النيابية عبر قنوات اتصال خارج الأطر التنظيمية المنصوص عليها في النظام الداخلي للمجلس، ما يطرح إشكاليات تتصل بشرعية الإجراءات، ومبدأ الشفافية، وموقع المؤسسة النيابية ضمن منظومة الحكم في ظروف الانقسام.

ربما نكون فعليًا قد دخلنا –دون أن نشعر– إلى مرحلة ما قبل الدولة التقليدية، حيث تنهار المؤسسات الحكومية لا بالقوة بل بالاختطاف! وتُمارس السلطة عبر نوافذ إلكترونية لا تعرف أرشيفًا ولا مهنية. وهنا نستدعي ما قاله ابن خلدون في مقدمته الخالدة “إذا رأيت الدولة قد استعانت على مصالحها بغير أهلها فاعلم أنها قد أدبرت” وهو توصيف دقيق لحالة البرلمان اليمني حيث تحوّل من مؤسسة دستورية إلى غرفة نقاش تابعة لشركات تجارية او إلى مجموعة دردشة يُحكم فيها المُداولات بالحذف والإضافة. يُعمّق هذا المعنى عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان في فكره فيقول “حين تسيح البنى الاجتماعية، تتبخر السلطة وتُمارس بلا مؤسسة” وهي بالضبط الصورة التي نراها اليوم، برلمان عائم بلا شكل وبلا ضوابط؛ أما من زاوية فلسفة الدولة، فقد كتب ماكس فيبر في نظرياته عن الدولة “جوهر الدولة يكمن في احتكارها المشروع للقرار من خلال مؤسسات معلومة الصلاحية”، وبالعودة إلى الفكر الدستوري، وضع جان جاك روسو في “العقد الاجتماعي” شرط مركزي للشرعية “أن تكون السلطة صادرة عن الشعب، ومُمارسة عبر مؤسسات معلومة ومراقبة”. وبناءً على ذلك، كيف تُمارَس السلطة اليوم عبر تطبيقات لا سند لها في القانون، ولا تخضع لملكية الدولة وسلطتها؟

من اللافت أن مجلس النواب، رغم انتهاء ولايته منذ العام 2009م مما يجعله من أطول البرلمانات عمرًا في التاريخ المعاصر -معنى قبل ثورات الربيع العربي- يستمر في أداء مهامه بذريعة “الضرورة”، حيث تم التمديد له مرة بسبب الاضطرابات باتفاق سياسي ثم لاحقاً بموجب المبادرة الخليجية، باعتباره الجهة التشريعية الوحيدة القائمة! غير أن هذا التمديد لا يستند إلى نص دستوري صريح، بل إلى حالة واقعية فرضتها تعقيدات المرحلة، وهو ما يُعرف في الفقه الدستوري بـ “الشرعية الواقعية” أو “الاضطرارية”، وهي شرعية مؤقتة ولا تمنح المجلس الحق في رفض بدائل عملية محتملة. ففي أبريل 2022م صدر إعلان رئاسي بتشكيل مجلس القيادة الرئاسي، وإنشاء هيئة التشاور والمصالحة، كجسم سياسي جامع يُسهم في رأب الصدع الوطني وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية. كان من المخطط أن تحل الهيئة محل مجلس النواب، لكن ذلك لم يكُن واُعتبرت هيئة داعمة لا بديلة.

هذا الموقف يفتح بابًا مشروعًا للتساؤلات آخرى، كيف يُجيز المجلس لنفسه البقاء استنادًا إلى مبدأ “الضرورة” بما يعنيه المبدأ من اضطرابات او جهود خليجية لحل الأزمة اليمنية، ثم يُنكر ذلك المبدأ على غيره الذي شُكل في نفس الظروف؟ أليس من التناقض أن تُحتَكم النصوص حين تمس المصالح، وتُهمل حين تُهدد الامتيازات؟ ففي ظل هذا الانكشاف، يبرز سؤال دستوري: هل بات حل مجلس النواب خيارًا مطروحاً على الطاولة؟ المادة (101) من دستور الجمهورية اليمنية تنص على ” لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس النواب إلا عند الضرورة وبعد استفتاء الشعب ويجب أن يشتمل قرار الحل على الأسباب التي بني عليها وعلى دعوة الناخبين لانتخاب مجلس نواب جديد خلال ستين يوما من تاريخ صدور قرار الحل” لكن في ظل الحرب والانقسام، يبدو هذا المسار صعبًا من الناحية الإجرائية وهو ما يعمل المجلس على استغلاله، غير أن مبدأ “الضرورة” نفسه، الذي أبقى المجلس قائمًا لعقد ونصف، قد يصبح اليوم المبرر الأقوى لإنهائه وفق إعلان دستوري من المجل الرئاسي.

وما يزيد الأمر وضوحًا، أن البلاد تمر بمرحلة تعطّلت فيها الوظيفة التشريعية بطبيعتها وأصبح الحديث عنها ترفاً وطنياً فالمجلس نفسه لم يصدر أي تشريعات قانونية جديدة ليؤول تحديث القوانين إلى “قرارات مجلس الوزارء بعد مقترح الوزير المختص”، وهو ما تعمل بموجبة أجهزة الدولة ومحاكم الجمهورية بمختلف درجاتها. وفي ظل وجود هيئة التشاور والمصالحة، كإطار جامع لكافة القوى الوطنية، لا يبدو استمرار مجلس النواب ضرورة وطنية مُلحة، خصوصًا بعد وفاة 60 عضواً من أعضائه -رحمهم الله-، وانقسام آخرين بين مناطق الشرعية ومناطق جماعة الحوثي الإرهابية. كما أن خارطة الفاعلين السياسيين تغيّرت، وظهرت مكونات جديدة أكثر تمثيلًا، يُعبّر عنها اليوم في مؤسسة الرئاسة، والحكومة وهيئة التشاور، فيما لا وجود لها في البرلمان! فلم يعد التمثيل يُقاس بمجلس نواب مضى على انتخابه أكثر من عقدين، بل بالأحقية الوطنية على المشاركة في صناعة القرار وإيجاد أُطر بديلة تمثل القوى السياسية وقواعدها الشعبية. وعلاوة على ذلك، يغدو المجلس في صورته الحالية عبئًا على الشرعية ويُضعف قدرتها على التعبير عن قوى الحكم الجديدة التي فرضتها التحولات السياسية والاعتراف الدولي بمؤسسات بديلة أكثر تمثيلًا.

وفي الختام، إن لم نتعامل مع هذه السابقة كجرس إنذار أخير فالقادم ليس مجرد تهريج سياسي، بل انقراض فعلي للدولة ومؤسساتها، حيث تدار المرافق بوسائل عمل افتراضية، ولا يهم حينها من حُذف من قروب الواتس آب، بل الأهم من حذف الدولة من المعادلة.

*الصورة من اجتماع مجلس النواب على برنامج الاتصال المرئي “قوقل مِيت” بتاريخ 12/ 7/ 2025م

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button
en_USEnglish