مقالات الرأي

من طهران إلى عدن.. كيف تجاوزت التسويات الكبرى اتفاق الرياض ؟

بقلم: ماهر باوزير

تشير المعطيات الراهنة إلى أننا أمام مرحلة جديدة في خارطة النفوذ الإقليمي، مرحلة تتجاوز فيها التحالفات المحلية والاتفاقات الثانوية لصالح ترتيبات كبرى تُرسم في العواصم المؤثرة، المشهد في اليمن، وتحديدًا في الجنوب، لم يعد محكومًا باتفاق الرياض الذي وُقّع عام 2019، بقدر ما بات مرهونًا بموازين القوة الجديدة التي أفرزتها التفاهمات الإقليمية والدولية، وآخرها ما نتج عن تدخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل، بعد حرب استمرت 12 يومًا .

وقف إطلاق النار الذي فرضته واشنطن أعاد ترتيب الأولويات الاستراتيجية في المنطقة، إيران، التي كانت تراهن على تصعيد محسوب لتحسين شروط التفاوض، وجدت نفسها مضطرة للانكماش مؤقتًا تحت الضغط الأمريكي المباشر، مما انعكس على سلوك أذرعها في المنطقة، خصوصًا في اليمن، الحوثيون، كذراع إقليمي فاعل، بدأوا في إعادة تقييم تحركاتهم في ظل ما يبدو أنه اتفاق ضمني على التهدئة، وهو ما سحب كثيرًا من الزخم السياسي والعسكري عن جبهات الشمال، وفتح المجال أمام ترتيبات جديدة في الجنوب .

اتفاق الرياض، الذي صُمم ليكون حلًا وسطًا بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي، فَقَدَ فاعليته بمرور الوقت، ولم يعد إطارًا ملزمًا لأي من الطرفين، واقع القوة على الأرض تغيّر، والأطراف الإقليمية التي رعته لم تعد تضعه ضمن أولوياتها، السعودية تتجه نحو سياسة الاحتواء وتخفيف التوتر، بينما تستمر الإمارات في تثبيت أدوات نفوذها عبر المكونات المحلية في الجنوب، سواء من خلال المجلس الانتقالي أو عبر أذرع أخرى ذات طابع عسكري وسياسي .

أما مجلس القيادة الرئاسي، الذي أُنشئ لاحقًا لتوحيد القرار، فقد بقي إطارًا شكليًا هشًا، عاجزًا عن فرض أي مسار جامع، في ظل تعدد الولاءات داخل تركيبته، وتضارب المشاريع السياسية بين أعضائه، فبين رئيس المجلس رشاد العليمي الذي يُمثل الخط المعتدل والمؤسساتي المدعوم دوليًا، وعضو المجلس عيدروس الزبيدي الذي يقود مشروعًا جنوبيًا انفصاليًا مدعومًا من الانتقالي، وطارق صالح الذي يتحرك من المخا كقوة عسكرية وسياسية ذات طموح خاص في الساحل الغربي، نجد أنفسنا أمام ثلاث كتل متناقضة داخل مجلس واحد، يصعب عليه اتخاذ قرار استراتيجي واحد دون تصدع داخلي .

وفي حين بقيت عدن مسرحًا رئيسيًا للمجلس الانتقالي، فإن المخا تحولت إلى منصة موازية لتصعيد نفوذ طارق صالح، في تكرار لسيناريو تعدد العواصم ومراكز القرار، وبين هاتين النقطتين – عدن والمخا – يتشكل واقع ميداني جديد يتجاوز مرجعيات اتفاق الرياض، ويُعيد رسم خارطة النفوذ جنوبًا بوقائع تتقدم النصوص .

في ظل هذه التحولات، أصبحت مناطق الجنوب تُدار بمبدأ الأمر الواقع، لا بموجب الاتفاقات السياسية الموقعة، المكونات المحلية لم تعد تلتزم ببنود الرياض، بل تتعامل وفق تحالفاتها المباشرة ومصالحها اللحظية، وسط صمت إقليمي ودولي يعتبر أن أولويات المنطقة قد تغيرت، وأن اليمن يجب أن يُدار وفق توازنات تتلاءم مع المعادلات الجديدة في المنطقة .

اللافت في هذه المرحلة أن تجاوز اتفاق الرياض لم يكن صداميًا أو معلنًا، بل جرى بهدوء سياسي مدروس وعلى مراحل، لم يُلغَ الاتفاق رسميًا، بل تُرك ليموت سريريًا وسط انشغال الإقليم بترتيب ملفات أكبر وأكثر حساسية، وهذا النمط من التجاوز يعكس طبيعة المرحلة :
تسويات تُعقد في أماكن أخرى، وتُفرض نتائجها على الأطراف المحلية دون أن يكون لها القدرة أو الإرادة على الممانعة .

ما بين طهران وعدن، ومن ساحات الجبهات إلى صالات التفاوض غير المعلنة، تتشكل سلسلة تفاهمات تعيد ترتيب الإقليم، والمفارقة أن من لا يُشارك في صناعة هذه التفاهمات، يصبح جزءًا من نتائجها شاء أم أبى، وهو ما يضع القوى الجنوبية خاصة، أمام لحظة حاسمة :
إما الانخراط الواعي في إعادة التموضع السياسي بما يتناسب مع المتغيرات الكبرى، أو الاكتفاء بردود الفعل، وترك مسار الأحداث يرسم مصيرها بمعزل عن إرادتها .

لقد تجاوزت التسويات الكبرى اتفاق الرياض دون أن تنظر إلى الوراء، والساحة اليوم مفتوحة لمن يملك الوعي والقدرة على قراءة اللحظة والتصرف بمسؤولية، المرحلة القادمة لن تعترف باتفاقات وُقّعت في ظروف ماضية، وإنما ستُبنى على الوقائع الجديدة التي يُعاد إنتاجها الآن .. من طهران إلى عدن !

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button
en_USEnglish