ثقافة

عمر محيرز في حرز حميد

بقلم: د. أحمد هادي باحارثة

نقف في هذه الأسطر القليلة مع كتاب من نوادر الكتب في نوع مادته احتوى على ترجمة شخص وتاريخ شعب، فالشخص هو الأستاذ عمر محمد محيرز، والشعب متمثل في الحياة الثقافية الحديثة في مدينة عدن التي كانت في النصف الأول من القرن العشرين مدينة مفتوحة احتضنت أجناسا عربية وغير عربية، وتعددت طوائف متعددة الملل، وزخرت بأوضاع اقتصادية غير عادية، فهي دبي ذلك الزمان، حتى ارتمى عليها بكلكله، وصار أهلها يقتاتون الفتات، ويعيشون على الذكريات.

شخصية عمر محيرز:

وصف الكتاب شخصية هذا الرجل بغموضها، وشدة انضباطها، حتى وسمه تارة بالرجل الصعب، وتارة بالرجل اللغز، ونعته بأنه ذو طبع هادئ مسالم، ومقدرة نادرة على الصمت الطويل، رغم ما وعاه فؤاده من اتساع ثقافته، مع غزارة تجاربه، وإن لم يحقق منها مآربه، لكنه إذا تكلم أسمع، وإذا تحدث أقنع، وإذا نطق أمتع، فكأنه يتخير مواطن كلامه ونوع مستمعيه، مع رخامةٍ في صوته تؤثر في من يتلقى عنه، وهو لكفاءته وجده وجديته انفتحت له أبواب الأعمال في أكثر من مجال، خاصة في مدينة عدن التي كانت آنذاك تحت الاحتلال البريطاني.

ارتباط محيرز بالعمل مع الإنجليز:

شهدت سنة 1936 أول ارتباط بين الأستاذ عمر محيرز بالعمل مع الإنجليز في عدن عندما تكونت هيئة استشارية لحاكم عدن البريطاني، فكان محيرز من أعضائها، ثم لإتقانه الإنجليزية صار هو رئيسا لتلك الهيئة، وهو الأمر الذي أحدث جدلا واسعًا حول مدى ارتباط محيرز بالإنجليز، وقدر ولائه لمشاريعهم الاستعمارية في المنطقة.

موقف المثقفين وعامة الناس من الوجود الإنجليزي:

وقد تباين موقف نخبة المثقفين الحضارم في البداية من المستعمر الإنجليزي، فقلة منهم من وقفوا مبكرًا ضده موقف العداء الصريح، وحث السلاطين على نبذهم والنأي عنهم، ويأتي على رأس هؤلاء الشاعر عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف (بحكم فارق سنه وطبيعة ثقافته الدينية)، وظهر موقفه في قوله: ديوان السقاف 412

قـد أوهـمـتنا أوروبـا إذ تلايننـا لين الأفـاعي بود ملـؤه دخـن

وأوقعتـنا انكلـترا من دسـائسها في هوة إذ حشت أحشاءها الإحن

أضاع سـاستنا وجه الصـواب وما تنبــهوا لنوايـها ولا فطنـوا

لكن عامة مثقفي حضرموت، ولاسيما فئة الشباب منهم، ارتأوا النظر ابتداءً بحسن الظن نحو الوجود الإنجليزي، وارتباطه بالسلاطين المتعاونين معهم، لاسيما أن الإنجليز في البداية أظهروا للناس بعض الإصلاحات المرجوّة، وتعاونوا مع السكان الحضارم في بعض الملمات، وفي تفسير هذه الحالة يقول المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف:

“منذ أن وفد الإنجليز إلى هذه الديار في عام 1937م وطّدوا الأمن في حضرموت توطيدًا نشكرهم عليه كل الشكر، والحضارم يفت في عضدهم المعروف فيعترفون به اعترافًا يملأ جوانحهم، ويعمي أبصارهم عن كل إساءة لحقت بهم، مهما قل شأن ذلك الجميل، ولم يكن توطيد الأمن في هذه البلاد بالأمر الهين على أي حال، ولا يُقدِّر ذلك إلا من ذاق مرارة اضطراب الأمن الذي امتحنت به البلاد طويلاً”. مقال نحن والإنجليز، محمد عبد القادر بامطرف، الطليعة العدد 36، 4/2/1960

وفي هذا العام نفسه (1937) وفي خضم ذلك الوسط الاستبشاري العام بحضرموت بالوجود الإنجليزي، على مستوى النخبة والعامة، شهد عمر محيرز اتفاقية أو معاهدة (الاستشارة) بين السلطان صالح بن غالب القعيطي (ت 1956) والإنجليز، وتحديدا في شهر أغسطس من ذلك العام، وكان حضوره ككادر وظيفي بوصفه المترجم بين المتفاوضين، والمترجم لنصوص الاتفاقية المراد توقيعها، بعدها عيِّن في دار الاستشارة بالمكلا منذ عهد أول مستشار مقيم عينه الإنجليز لحضرموت، وهو هارولد إنجرامس، وكانت مهمته مترجما وكاتبا (محاضر اجتماعات، صياغة اتفاقيات، خطابات)، وفي عام 1939 كان محيرز شاهدا في اتفاقية الاستشارة بين الكثيري وبريطانيا بوصفه المترجم بينهما. وشهد اتفاقيات الصلح مع القبائل، ترجمة وصياغة.

وهنا وجدنا من كبار مثقفي الحضارم من شكروا الإنجليز واتفاقياتهم مع السلاطين، ووضعوا الأمل فيها في بداية الأمر، ومنهم الشاعر المعروف صالح بن علي الحامد (ت 1967) حيث خاطب السلطان صالح القعيطي معبراً عن أمل الشعب فيه وفي مستشاره الإنجليزي حيث يقول: الأعمال الشعرية الكاملة (على شاطئ الحياة)، 274

أصالحُ هذا الشـعر وافـاك هاتفًا يـجيش بود صـادق غير كاذب

يعبر عن آمـال شـعب له على محيـاك تبـدو بارقـات المـآرب

وللشـعب آمـال كبـار كما له رجاء برأي المستشـار المصـاحب

ومن المحاسن التي أظهرها الإنجليز في حضرموت، ونوه بها مثقفوها، غير فرض الأمن الاجتماعي، والصلح القبلي، (الذي نوه به مطرف في المقال السابق)، هو وضعهم اللبنات الأولى للتعليم النظامي، وقد استجلبوا لتحقيق هذا الغرض التربوي السوداني القدال سعيد القدال، ومن هنا خاطبه الشاعر حسين بن محمد البار (ت 1965م) مرحبًا حيث قال: من أغاني الوادي، 1954م، 131

قدالُ إن العصر يُسرع في الخطى وجمودنا باقٍ فكيف الحال؟

البؤس جـمٌّ والجهـالة والونى فينا فهل يرجـى لهن زوال؟

وكـأنما هـذي الحيـاة روايـة للحضـرمي ختامها الزلزال

قـدالُ إن اليم مضـطرب وفي يدك السفينة حولها الأهوال

وتلق في الأحقـاف شكرًا خالدًا ولتشكرنّ صنيعك الأجيال

كما قامت السلطات البريطانية في حضرموت بالمساعدة في عملية إغاثة المنكوبين في المجاعة التي عمت البلاد أثناء الحرب العالمية الثانية، فكان ذلك سببًا في نجاة الكثير من الأهالي المنقطعين من موت محقق، وفي ذلك يقول الشاعر صالح الحامد: الأعمال الشعرية الكاملة 263

اهنئي حضرموت ما كان شعب ذاق ما ذقت من مرير العناء

فلكم ذاق شـعبك البؤس والمو ت وأبلى بالصبر خير بلاء

لست تنسـين ما حيـيت حنانًا من بريـطانيا عظيـم الغناء

إذ جلت عنك كربة الجوع والبؤ س فللـه من يـد بيضـاء

كل قـول يبـالغ الشـعر فيه دون ما تسـتحقه من ثـناء

بل نوهت بعض قصائدهم بشخص إنجرامس نفسه، ومن هؤلاء الشاعر والشيخ المربي عبد الله بن أحمد الناخبي (ت 2007م)، فنراه في قصيدة له يخاطب أول مستشار إنجليزي في حضرموت، وهو (إنجرامس): ديوان شاعر الدولة، عبد الله أحمد محسن الناخبي، 2001م، 95

إيه انجرامس كم أرى لك منة في حضرموت تجل عن إحصاء

كم طفت واديها وعدت موفقًا كم جلت في وعرٍ وفي صحراءِ

قدمت روحك في المخاوف باسمًا تبغي الصـلاح بحكمة ورواءِ

لم تخش في حب الصـلاح مغبة يوماً ولم تسـأم من الضوضاء

بل حدثنا التاريخ عن تعامل عناصر وطنية أخرى مع الإنجليز، خصوصا في جوانب نشر الأمان، وتنظيم الإدارة، وتعزيز التعليم، كالشيخ أبي بكر الكاف، والأستاذ محمد عبد القادر بامطرف، والدكتور محمد عبد القادر بافقيه، وغيرهم، ولاسيما في مراحلهم الأولى قبل انكشاف جورهم، وطغيان دورهم، ومع ذلك لم يسلموا من الملام على يد بعض الأقلام.

وحدث أن شهد عمر محيرز المحاولة العدائية الأولى للإنجليز لاقتحام مدينة الغرفة بوادي حضرموت، وراعه صمود أهلها وأميرها ابن عبدات، حتى توقفت قبل تحقيق غرضها بسبب ضغط اندلاع الحرب العالمية الأولى على بريطانيا، ومع أن محيرز وشيخ الكاف كانا طرفًا في المفاوضات مع ابن عبدات مبعوثين من إنجرامس، إلا أن محيرز أثناء ذلك تعاطف سرا مع الغرفة، حيث أظهر لبعض جلاسه من مثقفيها (الشاعر خميس كندي) بهجته لصمودها، بل تأييده لألمانيا في تلك الحرب نكاية بالإنجليز، وهنا تكشف لإنجرامس ميول محيرز الوطنية، بعد تشككه فيه من قبل ذلك من خلال ملاحظة عدم ارتياحه من بعض خطواتهم الاستعمارية مع السلاطين أو العدوانية نحو الغرفة، وربما بلغه بعض الجواسيس بلقائه ببعض الوطنيين من المثقفين ولاسيما الرافضين للإنجليز.

فسارع بإقصائه عن دار الاستشارة ونكل به بشهادة معاصريه، ومن أبرزهم المؤرخ ابن عبيد الله السقاف الذي علمنا عنه حذره المبكر وفراسته الصادقة في نوايا الإنجليز، وإن أتت عبارته عن تنكيل الإنجليز بمحيرز كالإشارة، ولم يفصل عن نوع هذا التنكيل، ولاشك أن انجرامس لم يقصه عن دار الاستشارة إلا بعد رفع تقارير كيدية ضده للحاكم في عدن، كما فعل مع وطنيين حضارم آخرين تم التنكيل بهم على خلفية أحداث الغرفة، مثل الأمير علي بن صلاح القعيطي، ومحفوظ المصلي (صديق محيرز)، وآخرين.

الوجه الثقافي لمحيرز:

بعيدا عن تلك المشاهد الحزينة والموجعة في تجربة محيرز السياسية، إن صح التعبير، فننتقل إلى تجربته الثقافية المتمثلة في أشعاره ومقالاته وآرائه النقدية، لقد كشفت جميعها عن عمق استيعاب محيرز للحياة الثقافية في زمنه، ليس على الصعيد المحلي فقط بحضرموت أو عدن، بل على الصعيد العربي عامة، ولاسيما في القاهرة قبلة مثقفي العرب بجميع أجناسهم بمن فيهم نخبة من رجالات حضرموت أسهموا بأشعارهم وكتاباتهم في الصحافة المصرية، وامتدت إلى المسارح ودور السينما كما عند علي أحمد باكثير.

ونشأت بين الرجلين الكبيرين باكثير ومحيرز علاقة ود وثقة متبادلة أنتجت عددًا من المراسلات بينهما، لم تقتصر على أخبارهما الشخصية فقط، بل كانا يغنيانها بآرائهما بما كان يعتمل في الأوساط الثقافية بجميع أشكالها الأدبية والفنية، وكان محيرز خلالها يفضي لباكثير بآراء نقدية لما طالعه أو شاهده منها اتسمت بجدية الطرح قبولا أو رفضا تحتاج لحالها إلى دراسة مستقلة عنها.

وهذا يخرج بنا في ختام المقال إلى ذكر مؤلف هذا الكتاب، أو بالأحرى إلى ربانه الذي أبحر بنا في سبيل يكتنفه ضباب الغموض في تتبع مسار حياته، وتعتسفه أمواج الشكوك حول بعض مواقف الرجل أثناء تجربته السياسية، وهو غموض وشكوك أحاط حتى ببعض المقربين أهله وخاصته، حتى كاد تباعد الزمان عنه يدسه في التراب، حتى قيض ربنا تعالى له الدكتور محمد حُميد فأنبته من الأرض نباتا، بقدرة لديه عجيبة على التتبع لخيوط حياة الرجل ونشاطاته بنفس طويل وصبر جميل، وكان أول خيط يمسك به هو مراسلاته مع باكثير فوجد منها الكثير مما نشر نصوصه في الكتاب، وسلط على طائفة منها نظرات التحليل والاستنباط بما يكشف عن خطين متوازيين يخدمان الكتاب في الكشف عن شخصية محيرز، فمنهما عن لوعة حياته بما كان يحكيه عن ظروفه ومعاناته، والآخر عن روعة فكره بما يفضي به من آرائه ونظراته، هذا طبعًا على ما كان محيرز ينسجه من بديع أشعاره التي كان مقلا فيها.

وهكذا استمرت رحلة البحث عن تفاصيل أخرى من حياة محيرز اضطر خلالها حميد إلى الارتحال من مدينة لأخرى ما بين شبام وعدن والقاهرة عبر مراسلة المهتمين ممن عاصروه ليدلوا ولو بشهادة محدودة عنه، أو بعض الباحثين ممن يتوخى فيهم التقاط معلومة ما، مع تقليبه لجانب كبير من الجرائد العتيقة في بعض المكتبات، مع أننا إزاء رجل قد بلغ به السن وضروراته ما يظن معه إيثاره للراحة الجسدية، ورجل قد أغنى المكتبة العربية قبل المحلية بمؤلفاته، وبما نشره من أعمال حافلة للقامة النيرة علي باكثير، مع حضوره الكثيف في القنوات والندوات، فضلا عن أشغاله الشخصية في التدريس وحوائج أهله، ومع ذلك كله تفرغ لشخصية نكرة لم يستنكف عنها ليدل على أصالة الحس البحثي في نفسية حُميد بعيدا عن المؤثرات الخارجية، فهو يبحث لأجل البحث وعن حب ورغبة في تقليب النقاط الداكنة، والتنقيب عن الطاقات الكامنة التي مد الزمان حجابه، وكأني به في تحد مستمر مع الزمان وصروفه، فيسلط عليه كاشف جهده ومداد حروفه، وما زال هذا دأبه، كنبع مستمر، وماء منهمر، يكد في سيره ويفني نفسه في غيره، فلعلنا به نقتدي، ولا نقول إنه أتعب من بعده، بل يسر السبيل لمن يتلو خطاه، ومهده ببساط القدوة، لمن أراد أن يحذو حذوه.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button
en_USEnglish