مقالات الرأي

عدن 1939.. مائة عام تحت الاحتلال:”العقبة” ذروة اهتمام السياسة البريطانية

بقلم د. سعيد الجريري

أبدت بريطانيا العظمى، في إطار سياستها الدولية، خلال المائة عام الماضية اهتمامًا خاصًا بشبه الجزيرة العربية، التي تفصل بين إفريقيا وآسيا من جهة، وتربط هاتين القارتين من جهة أخرى كجسر. واليوم، 19 يناير، يكون قد مر مائة عام بالضبط منذ أن رفعت بريطانيا علمها على الأراضي العربية: حيث احتلت عدن، التي كانت آنذاك منطقة صغيرة، لا تتجاوز مساحتها 123 كيلومترًا مربعًا.

وتبع هذا الخطوة عام 1857 ضم جزيرة بريم الواقعة في الممر الجنوبي للبحر الأحمر، فضلًا عن عدد من الجزر الأخرى غير المأهولة جزئيًا، الواقعة قبالة الساحل العربي للبحر الأحمر.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن عدن قد أُخضعت للسيطرة البريطانية قبل جيل كامل من افتتاح قناة السويس (سبتمبر 1869)، وأن إنشاء هذا الممر المائي لم يبدأ إلا في عام 1859 على يد فرنسا، فلا يسع المرء إلا أن يعبر عن إعجابه ببعد النظر الذي أبداه الدبلوماسيون البريطانيون. ففي البداية كان الأمر يتعلق بنقاط دعم بحرية تهدف إلى تأمين الطريق البحري إلى الهند، ولكن بعد افتتاح قناة السويس، شرعت بريطانيا في توسيع وتعزيز هيمنتها على شبه الجزيرة العربية. لقد كانت المسألة صعبة حتى اندلاع الحرب العالمية، إذ كان من الضروري التعامل معها بأقصى قدر من الحذر واللباقة، لأن منطقة شبه الجزيرة العربية كانت رسميًا ضمن نطاق نفوذ الباب العالي.

في العام الذي افتتحت فيه قناة السويس، تم الاستيلاء على مناطق حضرموت التي تحيط بعدن، ثم أُعلن عن فرض الحماية البريطانية على السلطنات الصغيرة المتنازعة فيما بينها على الساحل. وبعد وقت قصير، وُسعت الحماية البريطانية لتشمل الإمارات الواقعة على السواحل العربية للخليج العربي، ثم امتدت لتشمل قبائل القراصنة في عمان، وكذلك شبه جزيرة قطر، وإمارة الكويت.

وبعد الحرب العالمية، حدثت متغيرات في العالم العربي الخاضع للنفوذ البريطاني، كانت أهم بكثير من نتائج الصراع الأخرى. في حين ذهبت النجاحات – التي حُققت فجأةً، في أماكن أخرى، أثناء الحرب – أدراج الرياح، إذ يمكن أن نلاحظ هنا توطيدًا وتقوية للأوضاع المحققة. فقد أدركت بريطانيا أن عليها أن تسلك طرقًا جديدة لتحقيق أهدافها الإمبراطورية. فكيّفت سياستها العربية مع الحالة النفسية للشرق النائم الذي بدأ يستفيق. إذ لم تعد الشعوب تُحكم بالطريقة التقليدية القديمة، بل تمت متغيرات على الصعيدين السياسي والعسكري من خلال الاستشارة في المجالات المالية، والتحالفات، ومعاهدات الصداقة.

بهذه الطريقة، دُمجت الشعوب بشكل أفضل وأكثر استدامة في نظام أمني كبير بدلًا من استخدام القوة المفرطة. فعلى سبيل المثال: في علاقة بريطانيا بابن سعود، ملك المملكة العربية السعودية. أُبرمت معاهدة معه في عام 1915، اعترفت بريطانيا بموجبها به حاكمًا لبلاد الوهابيين، أي مركز شبه الجزيرة العربية. والتزم ابن سعود نفسه – الذي أدرك القناصل البريطانيون ولاسيما المقيم العام في الخليج العربي، السير بِرسي كوكس، مبكرًا أنه رجل المستقبل- التزم من جانبه بضمان أمن المحميات البريطانية، وكدول أخرى مستقلة في شبه الجزيرة العربية، اعترفت بريطانيا حينئذٍ بالحجاز وعسير. وتلقى كل من ابن سعود ورؤساء دول الحجاز وعسير من بريطانيا مساعدات مالية كبيرة. ووفقًا لإفادة ليو أميري وزير المستعمرات، في مجلس العموم، دُفعت مساعدات لابن سعود، حاكم الوهابيين، بلغت 542,000 جنيه ذهب، بين عامي 1917 و1923، بينما حصل الحسين شريف مكة الأكبر على حوالي 6 ملايين جنيه ذهب. ومع ذلك ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن الحسين لم يكن محايدًا في الحرب مثل ابن سعود، بل قدم مساعدة مسلحة لبريطانيا.

ويمكن إدراك خلفية الجهود الكبيرة التي بذلتها بريطانيا من خلال أهمية شبه الجزيرة العربية، التي أشير إليها في البداية، كجسر بين إفريقيا وآسيا، وأكثر من ذلك كحاجز دون الهند البريطانية. فاستخدمت بريطانيا أسرة الشريف في الحجاز لتشكيل حلقة حول منطقة ابن سعود على البحر الأحمر وشمال الجزيرة العربية. وعُيّن الشريف حسين ملكًا على الحجاز، وابنه فيصل ملكًا على العراق، وابنه عبدالله أميرًا على شرق الأردن. ثم تخلت بريطانيا لاحقًا، عن حسين لأنه كان يحيك المؤامرات دائمًا، وأثبت أنه صديق غير موثوق به، ما سمح لابن سعود بالتحرك بحرية للاستيلاء على الحجاز. وسرعان ما أصبحت عسير تحت حماية ابن سعود أيضًا. وكان أمير هذه المنطقة قد سوّلت له نفسه محاولة التقرب إلى إيطاليا، ما يعني تحديًّا لبريطانيا. فكان من الطبيعي أن يكون تنامي قوة حليفها ابن سعود على حساب مثل هذه الدول غير الموثوقة موضع ترحيب. وكان لا بد من تسوية الوضع مع اليمن، الجزء الوحيد من شبه الجزيرة العربية الذي ظل مواليًا للعثمانيين في أثناء الحرب، وظل بعدها مضادًا لبريطانيا.

لقد تمكن ابن سعود من هزيمة إمام اليمن، ومثّلَت معاهدة السلام التي وُقّعت عام 1934 في الطائف ذروة سياسة ابن سعود الذي كُلّف برعاية مصالح اليمن الخارجية، مما وثق ارتباطه به كثيرًا. ويمكن افتراض أن هذه المعركة التي خاضها ابن سعود كانت موجهة أيضًا ضد إيطاليا، التي بدا أن لها موطئ قدم في اليمن. إلا أن علاقة إيطاليا، في الواقع، بهذا البلد قديمة جدًّا، ويمكن تعليلها بسهولة؛ لأن اليمن كان الأقرب إلى المستعمرات الإيطالية على الضفة الأخرى من البحر الأحمر.

على أي حال، لم يكن ممكنًا لبريطانيا أن تسمح لإيطاليا بالقفز من إريتريا إلى الساحل الشرقي للبحر الأحمر، دون أن تعرض نفسها لخطر إغلاق طريقها البحري إلى الهند. فالاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ مؤخرًا بين بريطانيا وإيطاليا يعترف بالهيمنة البريطانية على الساحل العربي للبحر الأحمر. من ناحية أخرى، كان على بريطانيا التخلي عن القاعدة (البحرية) في جزيرة بريم، وتحييد الجزر الواقعة قبالة الساحل العربي للبحر الأحمر.

ورغم أن بريطانيا لا تعارض أن يقيم ابن سعود على علاقات صداقة مع إيطاليا، وأن يمضي في نهجه السياسي الخاص في جوانب معينة، إلا أنها ترصد ذلك عن كثب لضمان عدم اختلال التوازن في شبه الجزيرة العربية. فكل ما يتعارض مع المصالح البريطانية، التي هي في وضع حساس، يُقضَى عليه بمنهجية مدروسة. وهذا ما يدركه ابن سعود جيدًا. فهو يعلم أن هناك دولًا أنشئت في ما يشبه الطوق حوله، وهي كلها تابعة لبريطانيا. كما يعلم أيضًا أن سكان بلده الكبير، الذي أصبح الآن المملكة العربية السعودية، ليسوا متجانسين على الإطلاق، وأن من الضروري – لإحكام السيطرة على هذا العناصر المتنوعة – وجود علاقة جيدة مع بريطانيا. من ناحية أخرى، تحتاج بريطانيا إلى هذه الدولة المركزية القوية لفرض الهيمنة على الدول الساحلية، بينما تحتاج الدول الساحلية إلى تشكيل توازن ضد الدولة المركزية. فكل خيوط السياسة العربية تُوصَل، عبر عدن، بوزارة المستعمرات في لندن. ولعل سحب عدن من إدارة الهند البريطانية، التي كانت تحتها إلى حد كبير سابقًا، يظهر بوضوح الدور الكبير الذي تلعبه هذه المنطقة في مصالح الإمبراطورية العامة. إلا أن بين ابن سعود وبريطانيا نقطة خلاف واحدة فقط، هي (العقبة) الواقعة في أقصى شمال الخليج المسمى باسمها، والذي يشكل، إلى جانب خليج السويس، ثاني خليج في البحر الأحمر، شمالًا.

بعد الاستيلاء على الحجاز، طالب ابن سعود بهذه المدينة الساحلية الهامة، التي كانت في الأصل تابعة للحجاز، إلا أن بريطانيا ضمتها عام 1924 إلى منطقة انتدابها في شرق الأردن. فتم الاتفاق على احترام الوضع القائم إلى أن تسوّى القضية في سانحة مناسبة بما يرضي الطرفين. ومع ذلك، فقد تستغرق هذه السانحة وقتًا طويلًا قبل أن تأتي. فاستقرت بريطانيا في العقبة، التي كانت قد لعبت دورًا استراتيجيًا مهمًا خلال الحرب العالمية، وجعلت منها مركزًا لقوتها في البحر الأحمر. لذلك، كان بإمكانها- دون تردد بشأن إيطاليا- التخلي عن القاعدة (البحرية) في جزيرة بريم. فمثلث العقبة-حيفا-البصرة هو أحد أقوى المراكز العسكرية في العالم.

منذ سنوات، يجري العمل على تحويل العقبة إلى مركز للقوة البريطانية بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. حتى يُقال إنه ستُنشأ قناة جديدة من العقبة إلى حيفا، إلى جانب قناة السويس. وعلى العكس من قناة السويس، فإن هذا الممر المائي سيمر عبر منطقة تخضع كليًّا للسيطرة البريطانية. بهذه الطريقة، سيتم تجاوز الصعوبات التي قد تنشأ من كون قناة السويس، بعد انتهاء امتيازها الحالي في عام 1969، ستخضع للسيادة المصرية الكاملة. وربما يرتبط هذا المشروع أيضًا بالرغبة في تحويل ميناء العقبة إلى أحد أقوى نقاط الدعم للغواصات. مثل هذه القاعدة لن تكون مهمة للبحر الأحمر فقط، بل ستصبح نقطة استراتيجية رئيسية للدفاع عن القوة البريطانية في الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، وربما في البحر الأبيض المتوسط كله. وهكذا، تشكل العقبة ذروة البناء الكبير الذي بدأته بريطانيا قبل مائة عام، عندما وضعت الحجر الأول باحتلال عدن.

*”من أرشيف صحيفة NRC الهولندية: 19 يناير 1939،(مراسل خاص)” .

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button
en_USEnglish