مقالات الرأي

الدولة بعد تحولات 3 ديسمبر

بقلم: د. أحمد بن إسحاق

شهدت اليمن في الثالث من ديسمبر الجاري تحولات ميدانية مفصلية، خاصة في الشرق، كان صداها يتجاوز نطاقها الجغرافي ليصل إلى عمق الحسابات الإقليمية والدولية. ومع ما رافق الحدث من إعادة انتشار عسكري وتبدّل في الخارطة الأمنية وتوتر في المزاج الشعبي، بدا واضحًا أن ما جرى يتجاوز فكرة “صراع النفوذ المحلي” ويتخطى توصيفات الانتصار والانسحاب والتقدم التكتيكي.

ما يحدث اليوم هو إعادة هندسة كاملة لمعنى السلطة في اليمن، تتشابك فيها العوامل الداخلية مع التحولات الاستراتيجية في الخليج والبحر الأحمر، ويُعاد فيها تعريف دور الدولة في لحظة إقليمية شديدة الحساسية يقترب فيها الشرق الأوسط برمّته من إعادة رسم خرائط النفوذ.

ظلّت شرق اليمن—حضرموت والمهرة—منطقة منخفضة الضجيج خلال السنوات الماضية، لكنها لم تكن يومًا خارج دائرة التنافس. ومع انتقال التوتر إلى البحر الأحمر، وتعثر المسار السياسي، وتنامي الأدوار غير التقليدية داخل الخليج، تحوّل الشرق إلى منصة جيوسياسية تتحرك فوقها رهانات ليست يمنية فقط، بل إقليمية ودولية.

لهذا، لا يمكن قراءة تحولات 3 ديسمبر باعتبارها “حدثًا محليًا”، بل جزءًا من إعادة ترتيب أوسع في الشرق الأوسط، حيث تتقدم ملفات الطاقة والموانئ وأمن الطرق البحرية إلى واجهة الأحداث.

في هذا السياق جاءت زيارة رئيس الوزراء الدكتور سالم بن بريك إلى الرياض في توقيت بالغ الحساسية، لتبدو أكبر من مجرد مشاورات روتينية، وكأنها خطوة محسوبة في رقعة شطرنج إقليمية تزداد تعقيدًا.
ورغم التكتم الرسمي، إلا أن دلالات الزيارة واضحة:
هناك رغبة خليجية صريحة في ضبط إيقاع المتغيرات شرق اليمن عبر الحكومة، لا عبر الأطراف المحلية المتنافسة.
وهناك إعادة تقييم لموقع الدولة الشرعية داخل معادلة النفوذ الجديدة بعد التغييرات الميدانية الأخيرة.
كما أن الحكومة تسعى—لأول مرة—لاستعادة دور الضامن السياسي بدل دور المتلقي للضغوط.
الصمت الذي رافق الزيارة لا يوحي بالعجز، بل يبدو انه يعكس رغبة في قراءة دقيقة للمشهد قبل اتخاذ خطوات قد تزيد حدة الاستقطاب الداخلي.

وعلى الأرض، تزامنت أحداث حضرموت والمهرة مع تطورات مهمة في عدن، حيث دخلت قوات الانتقالي اليوم إلى محيط قصر معاشيق قبل انسحابها، وأُعلن اعتصام مفتوح في سيئون، مع حالة احتقان قبلي، وتوترات رافقها نهب منازل قيادات عسكرية عادت إلى مأرب وعدن.

هذه الوقائع تكشف أن اليمن يتجه نحو مرحلة حراك سياسي مفتوح، وأن القوى المحلية لم تستقر بعد على شكل النظام القادم ولا على حدود الأدوار بين الدولة والحركات والمكونات القبلية.

لكن الملفت أن جميع الأطراف—بمن فيهم الانتقالي— في حالة انتظار لما ستسفر عنه “مشاورات الرياض”، وهو ما يؤكد أن مركز الثقل لم يعد في الميدان وحده، بل في العواصم الإقليمية التي ترسم الإطار العام للحل.

في الجانب الرمزي، فإن رفع الأعلام الجنوبية لا يصنع “دولة جنوبية” كما أن رفع شعار الجمهورية لا يعني عودة “دولة ما قبل الحرب”.
وهكذا يقف اليمن اليوم في مساحة رمادية تُعاد كتابتها، فلا دولة جنوبية مكتملة، ولا جمهورية يمنية قائمة، بل شكل جديد للدولة لم تتحدد ملامحه بعد.
يُطرح اليوم السؤال الأكثر تداولًا:
متى سيعلن الانتقالي الدولة الجنوبية؟
والحقيقة أن هذا القرار لا يتوقف على الانتقالي وحده ولا على خصومه المحليين، بل يرتبط بمعادلة إقليمية أوسع تتقاطع فيها مصالح خليجية ودولية، وتُعاد فيها صياغة شكل النفوذ في ساحل العرب وبحر العرب والبحر الأحمر.

ما يمكن تأكيده هو أن اليمن—شمالًا وجنوبًا وشرقًا—دخل منطقة انتقالية لم تُحسم بعد.
خطوط ما قبل 3 ديسمبر انتهت، لكن خطوط ما بعده لم ترسم نهائيًا.
وفي وسط هذه المعادلة المعقدة، تبدو الحكومة في موقع حساس، لكنها ليست خارج اللعبة.
يحاول بن بريك—بهدوء وحذر—إعادة بناء توازن جديد يقوم على:
تجنب التصادم مع أي طرف محلي،
الحفاظ على مسافة واحدة بين جميع القوى،
استعادة دور الدولة كحامل سياسي للتسوية،
وتقديم رؤية قابلة للتعامل معها دوليًا في لحظة تتقاطع فيها ملفات اليمن مع أمن البحر الأحمر.
وقد تكون زيارة الرياض بداية انتقال من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة إعادة التموضع.

اليوم نجد اليمن يدخل حقبة سياسية مختلفة لا تشبه ما قبل 3 ديسمبر أو ما بعده.
المرحلة القادمة لن تحددها القوى المحلية وحدها، ولن تكون نسخة من 2015 أو 2019 أو 1990 أو 1967.
نحن أمام إعادة تشكل كاملة للفضاء اليمني، تتداخل فيها الحسابات الخليجية والتفاهمات الدولية وأدوار القوى المحلية وصولًا إلى شكل الدولة القادم—أيًا كان اسمه أو حدوده.
ورغم تباين التفسيرات، تبقى حقيقة واحدة ثابتة:
اليمن دخل مرحلة لا يمكن قراءتها بخط مستقيم، بل بفهم دقيق لشبكة العلاقات بين الداخل والإقليم والعالم.

ويبقى السؤال الذي يشغل اليمنيين اليوم:
متى ستنضج «الطبخة» التي طال انتظارها؟
فالتحركات تتسارع، لكن القرارات الكبرى ما تزال تُطبخ على نار إقليمية هادئة، فيما الداخل يعيش حالة ترقّب ضاغطة… أشبه بما يصفه المثل الحضرمي الذي يردده الشيخ بن حريز: “الفتيت على الجائع بطاه “أي أن التأخير مهما كان بسيطًا يصبح ثقيلًا حين يطول الجوع.
وهكذا يبدو اليمن اليوم:
كل شيء يتحرك… لكن العيون ما تزال تنتظر اللحظة التي تُرفع فيها أغطية المشهد، ويظهر شكل الدولة القادمة في ما بعد 3 ديسمبر.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
arArabic