التقارب الانتقالي – الحوثي: الخديعة الكبرى أو الولادة السياسية لليمن الجديد
بقلم: د. أحمد بن إسحاق
يشهد المشهد اليمني منعطفًا غير مسبوق بعد أن بدأ المجلس الانتقالي الجنوبي يقترب سياسيًا من جماعة الحوثي، في لحظة تبدو الأكثر حساسية منذ اندلاع الحرب قبل عقد من الزمن. هذا التقارب المفاجئ لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الدولي الأوسع، خصوصًا القرار الأخير لمجلس الأمن بتمديد العقوبات على الحوثيين وإدانة هجماتهم في البحر الأحمر، ذلك القرار الذي قوبل برفض صريح من الانتقالي الذي اعتبره متجاوزًا لواقع جديد يتشكل على الأرض. رفض الانتقالي لقرار أممي ضد الحوثيين أثار تساؤلات واسعة، ودفع مراقبين إلى الحديث عن محاولات إعادة رسم التحالفات، بل وعن قنوات تواصل غير معلنة بين الطرفين يجري العمل عبرها رغم تناقض المشاريع بين شمال يسعى للهيمنة وجنوب يسعى للانفصال.
المصادر الصحفية اليمنية لعبت دورًا مهمًا في كشف ملامح هذا التقارب.
موقع “الخبر اليمني” تحدث بوضوح عن وجود انفتاح سياسي من الانتقالي تجاه الحوثيين، وربط ذلك بخلافات داخلية جنوبية ظهرت بعد اتهامات للحزب الاشتراكي الجنوبي بمحاولات إفشال هذا المسار. وفي المقابل، نقلت جهات تابعة لحكومة الشرعية، بينها مصادر في وزارة الدفاع، اتهامات بأن هناك “تفاهمات سرية” بين الطرفين تتعلق بالسيطرة على بعض المناطق وبتسهيل تحركات ميدانية معينة. مثل هذه التسريبات – سواء كانت صحيحة كليًا أو جزئيًا – تعكس وجود صورة جديدة للمشهد لا يمكن تجاهلها، وتمنح التقارب وزنًا يتجاوز مجرد التحليلات إلى مستوى التحركات الفعلية.
واللافت أن الانتقالي، وهو القوة الجنوبية الأكثر تنظيمًا ونفوذًا، لم يعد يكتفي بمواقف سياسية تقليدية، بل يبدو في حالة إعادة تموضع استراتيجي تعكس إدراكًا عميقًا بأن البيئة الإقليمية والدولية تتغير بسرعة. فالسعودية تفتح قنوات أعمق مع الحوثيين، والإمارات تعيد ترتيب أوراقها في الجنوب، والشرعية تتآكل، والقوى الدولية لم تعد تنظر للصراع اليمني بمنظار عام 2015. هذه المتغيرات تجعل الانتقالي بحاجة إلى تقوية موقعه عبر خيارات جديدة، حتى لو كانت غير مألوفة أو صادمة لجمهوره.
من جانب الحوثيين، فإن أي تقارب مع الانتقالي يمنحهم اعترافًا سياسيًا ضمنيًا بأن الجنوب ليس طرفًا تابعًا للشرعية ولا جزءًا من حسابات الحكومة المعترف بها، بل كيان مستقل يمتلك قوة عسكرية وسياسية لا يمكن تجاهلها. هذا الاعتراف الضمني يساعد الحوثيين على تثبيت سيطرتهم في الشمال عبر صيغة “تقاسم واقع” بدلًا من صراع شامل. وقد سبق لقيادات حوثية أن لوّحت بإمكانية القبول بدولة جنوبية مستقلة إذا كانت جزءًا من صفقة شاملة تؤمن مصالح الجماعة الاقتصادية والسياسية.
مع ذلك، لا يخلو المشهد من مخاطر حقيقية. فالتقارب بين قوتين غير حكوميتين قد يفتح الباب أمام شكل جديد من التقسيم الواقعي بين شمال حوثي وجنوب انتقالي، مع ما يعنيه ذلك من ترسيخ حدود انفصال غير معلنة وربما دائمة. وفي المقابل، هناك احتمال أن يكون هذا التقارب مجرد “مناورة كبرى” من الطرفين، كلٌ منهما يسعى لاستخدام الآخر كورقة ضغط على القوى الإقليمية والدولية، أو كأداة لاحتواء خصوم داخليين مثل حزب الإصلاح أو بعض القوى الجنوبية المناوئة للانتقالي. هذه الاحتمالات كلها تجعل التقارب غامض الماهية: هل هو اتفاق طويل المدى أم مجرد تكتيك عابر؟
لكن السؤال الأعمق الذي يطرحه هذا التقارب على اليمنيين هو: هل نحن أمام ولادة سياسية لشكل جديد من “يمنين” متعايشين، أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب، أم أننا أمام خدعة سياسية كبرى ستنهار عند أول اختبار ميداني جدي؟ لا أحد يمتلك إجابة قطعية بعد، لكن المؤكد أن ما نشهده اليوم ليس مجرد اصطفاف جديد بل إعادة رسم شاملة لموازين القوى. الأحداث باتت تتحرك خارج القوالب التقليدية، وما بدا محالًا لسنوات صار فجأة مطروحًا للنقاش الواقعي.
في النهاية، سواء كان التقارب تحولًا استراتيجيًا أو مجرد تكتيك مؤقت، فإنه يعيد فتح السؤال الأكبر: هل يولد اليمن الجديد من صدمة التحالفات غير المتوقعة، أم أن ما نراه ليس إلا مقدمة لخديعة سياسية جديدة ستغرق البلاد في فوضى أعمق؟ الزمن وحده سيكشف، لكن ما هو واضح الآن أن قواعد اللعبة تغيّرت، وأن كل طرف يحاول أن يحتل موقعه على الرقعة قبل أن تُرسم خطوط النهاية.



