في ذاكرة أستاذ الأجيال والسياسي الراقي فرج طاحس:
روح المقاومة التي لم تنحنِ ولم تُساوم..

شهادة الطالب: نبيل سعيد مُطبِّق
لم تكن حصص مادة التاريخ التي تشرّفنا بحضورها في الصف الثاني الثانوي، القسم الأدبي، بثانوية الصبّان عام 1996-1997م، مجرد دروسٍ تُلقى، بل كانت جرعاتٍ دسمة من الوعي المتجذر، والمعرفة العميقة، والوطنية الصادقة التي لا تُساوم.
فلقد كان الأستاذ فرج، رحمه الله، فنانًا في بث الحياة في صفحات التاريخ الباردة؛ إذ لم يلقّنّا تواريخ جامدة أو أسماءً صمّاء، بل كان ينسج من الأحداث خيوطًا حية، تجعلنا كطلاب نعيش في أروقة الماضي، لنستلهم منه العبر، ونفهم حاضرنا، ونستشرف مستقبلنا. بصوته الهادئ الذي يحمل وقار الحكماء، ونبرته الواثقة التي تنبض وطنية، كان يربط ببراعة فائقة بين عِبر التاريخ القديم وتحديات واقعنا المعاصر.
لقد عاصر جيلنا، الذي حظي بشرف التتلمذ على يديه، تحولات وتداعيات ما قبل حرب صيف عام 1994م وما بعدها، تلك الفترة التي قذفت بمتغيرات جمّة على المستويين العام والشخصي. وفي خضمها، شهدنا مسيرة أستاذنا الذي كان مديرًا لثانوية الصبّان من عام 1985م إلى عام 1995م. وبفعل تلك المتغيرات السياسية القاسية، أُقيل من منصبه الإداري، ليعود إلى وظيفته مدرسًا للتاريخ، في مشهدٍ لم يكن سوى نوع من الانتقام السياسي الذي مارسه خصومه ضد التيار السياسي الذي كان ينتمي إليه. رغم أن الرجل كان مشهودًا له بنظافة القلب واليد، ولم تكن له عداوات مع أحد، إلا أنها كانت السياسة وأفاعيلها التي لا ترحم.
في تلك المرحلة العصيبة، عاصر الأستاذ فرج ما بعد الحرب بكل إفرازاتها، بعين المؤرخ الراصد للأحداث، وقلب السياسي الذي خَبِرَ دروبها. كنا نحن طلابه، نحاول دائمًا استمالته إلى مربع السياسة، طامعين في الظفر بتعليق سياسي منه، لكنه كان غالبًا ما يلتزم الصمت الحكيم. وإذا ما طُلب منه التعليق، كان يلجأ إلى إسقاطات تاريخية عميقة، تجعل طلابه يستنبطون الفكرة والمعنى والمغزى، عبر نبرة صوته الهادئ وإيماءاته الذكية التي كانت سلاحه الوحيد في إذكاء روح المقاومة في شخصيته المهيبة.
لقد ظل طودًا شامخًا أمام عواصف السياسة والزمن، التي كان يسخر منها بابتسامة خفيفة تارة، وبصمتٍ واعٍ تارة أخرى، على عكس ما كان يتوقعه خصومه من أن لحظة الانكسار أو نكسة ما بعد الحرب ستنال من همته وعزيمته أو من مبادئه وقيمه الراسخة.
علّمنا الأستاذ فرج أن التاريخ ليس مجرد قصص تُروى، بل هو ذاكرة أمة وروحها، ومصدر حكمة لا ينضب. غرس فينا حب الوطن، لا بالشعارات الرنانة الجوفاء، بل بالفهم العميق لتضحيات الأجداد وتراثهم العظيم. كان يرى في كل واحد منا مشروع مواطن صالح، قادرًا على بناء مجتمعه وخدمة وطنه بكل إخلاص وتفانٍ.
رحل الأستاذ فرج طاحس جسدًا، لكن إرثه التربوي والفكري، وروح المقاومة التي زرعها فينا، ستبقى حية في عقول وقلوب كل من تتلمذ على يديه. لقد ترك فينا أثرًا لا يُمحى، وجعل من حصة التاريخ درسًا للحياة، ومدرسة للصمود والعطاء.
رحمة الله أستاذنا الفاضل رحمة الأبرار، وعزاؤنا إلى أبناءه وأصدقاءه وتلاميذه ومحبيه.



