تقارير وتحقيقات

المطرودون من الرياض.. والمطاردون في عدن

كتب: المحرر السياسي

لا شيء يبعث على الضحك المرّ أكثر من رؤية من لفظتهم العواصم وهم يحاولون رسم هالة من العظمة وسط دخان الغضب الشعبي. ففي حين أعدت الرياض حقائبهم بلا وداع، كان أبناء عدن يجهزون أحذيتهم لاستقبالهم بالطريقة التي تليق بمن خذلهم.

وصلوا على متن طائرة عسكرية كأنهم وفد منتصر، فيما الحقيقة أن الطائرة لم تكن إلا آخر ما تبقى لهم من مهابة زائفة، بعد أن نُزع عنهم الغطاء الخارجي للشرعية، وتركوا في العراء يواجهون مصيرهم. وقفوا على مدرج المطار بربطات عنق أنيقة وابتسامات شاحبة يحاولون بها إخفاء رائحة الفشل التي باتت تسبقهم حيثما حلوا.

في الصورة التي تناقلتها وكالات الأنباء، بدا المشهد كمسرحية عبثية: رئيس مجلس قيادي فقد قيادة الميدان، ومسؤولون لا يملكون سلطة حتى على مكاتبهم، يهبطون بين أناس يتضورون ألماً من الفقر وانقطاع الخدمات، كأنهم يحملون على ظهورهم لافتة كتب عليها: “قادمون بالوعود الفارغة.”

عدن، المدينة التي أرهقتها الحرب والسلام المزيف، لم تعد تستقبل أحداً بالورود. أبناؤها الذين يطاردون لقمة العيش ويصارعون انقطاع الكهرباء والمياه، لم يجدوا بداً من مطاردة هؤلاء المطرودين، لا حباً في ملاحقتهم، بل غضباً من مشاهد الاستعراض الفارغ الذي جاؤوا به.

إنهم لا يملكون حلاً لمشكلة الكهرباء، ولا إجابة لسؤال الماء المقطوع، ولا رؤية لما بعد النهب والفساد. هم ببساطة قادمون ليقولوا: “نحن هنا”، وكأن الوجود بذاته إنجاز يستحق الاحتفال، بينما المواطن يبحث عن الكهرباء كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، ويحلم بالدواء كما يحلم بالغيم في صيف عدن الحارق.

الرياض لفظتهم لأنهم فشلوا، وعدن تطاردهم لأنهم خذلوها. إنهم المطرودون من العواصم والمطاردون في الشوارع، غرباء في كل مكان، لا وطن يحميهم ولا شارع يصفق لهم.

لعل أشد ما في الأمر سخرية أن هؤلاء الذين لا يملكون اليوم حتى شعبية عابر سبيل، كانوا بالأمس يتحدثون عن “الشرعية” و”السيادة” وكأنها صكوك ملكية بأسمائهم. واليوم، ها هم يجرون خلفهم خيباتهم كما تجر عربات السيرك بقايا العروض الفاشلة.

في عدن، لم تعد هذه الأسماء تثير شيئاً سوى الحنق. المواطن البسيط يعرف جيداً أن الكهرباء لن تعود بتصريحاتهم، والماء لن يتدفق بخطاباتهم، والخدمات لن تُبعث من ركام وعودهم. لذا، كان طبيعياً أن تُستقبل وفودهم بالأسئلة الحارقة والمطالب الثقيلة، وأن يُطاردوا لا طلباً لصور السلفي، بل للقصاص من سنوات التيه والخذلان.

باختصار، نحن أمام مشهد سريالي: مطرودون من الرياض، مطاردون في عدن، عالقون في زحمة الفشل، يظنون أن البذلة الفاخرة تخفي هشاشتهم، وأن موكب الحماية يحميهم من غضب شعب جائع.

وها هم اليوم يتسكعون بين مطارات الشتات، عالقين بين صالات الانتظار وصفعات الواقع، يبحثون عن عاصمة تحتمل فشلهم، أو عن شارع لا يعرف وجوههم. لكن عدن… عدن تعرفهم جيداً. تعرف أن كل وعد يخرج من أفواههم لا يسمن ولا يغني من جوع، وأن كل خطوة يخطونها ليست إلا موكباً جنائزياً آخر، يُشيع فيه الناس أحلامهم التي اغتالتها هذه الوجوه الباهتة.

في النهاية، هم لا يختلفون عن الكهرباء التي يعدون بها: وعود تأتي وتغيب، ووجوه تنقطع فجأة كما ينقطع التيار، بلا سابق إنذار، ولا أسف عليهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
arArabic