أهم الاخبارتقارير وتحقيقات

كيف انتصرت إرادة الجنوب؟ من تداعيات حرب 1994 إلى تشكّل المشروع الجنوبي كقوة سياسية وعسكرية فاعلة عدن – خاص

عدن – خاص – حضرموت نيوز 
لم تكن حرب 1994 مجرّد مواجهة عسكرية بين شريكي الوحدة في صنعاء وعدن، بل شكّلت لحظة انقلاب سياسي مكتمل الأركان على صيغة دولة الوحدة وعلى الشراكة الجنوبية في القرار والسلطة والثروة. أعقب تلك الحرب مسار ممنهج لـتفكيك البنية المؤسسية للدولة الجنوبية السابقة، وإقصاء الكوادر، وإعادة هندسة المجال السياسي والاقتصادي لصالح مركز نفوذ واحد في الشمال.
غير أن هذا السياق لم ينجح في تفريغ الجنوب من مضمونه السياسي والوطني؛ بل أطلق على المدى المتوسط ديناميات مقاومة جديدة، أعادت تعريف “القضية الجنوبية” بوصفها قضية شعب يسعى لاستعادة دولته ومكانته، لا مجرد خلاف على السلطة.
في هذا المناخ، برزت تيارات وتشكيلات جنوبية مبكّرة، من بينها تيار إصلاح مسار الوحدة داخل الحزب الاشتراكي، ثم حركات الخارج مثل “موج” و“تاج”، التي أسست لخطاب جنوبي واضح يرفض مخرجات حرب 1994 ويعمل على تدويل القضية، وإعادة الاعتبار للهوية الجنوبية في المحافل الإقليمية والدولية. هذه الأطر راكمت رأسمالاً سياسيًا ونضاليًا، مهّد لاحقًا لانفجار الحالة الشعبية في الداخل.
عام 2007 شكّل نقطة تحوّل مفصلية مع انطلاق الحراك السلمي الجنوبي، الذي نقل الجنوب من حالة التذمر الصامت إلى حالة حراك جماهيري منظّم. خرجت مئات الآلاف في مختلف المحافظات الجنوبية، رافعة علم الجنوب وشعارات استعادة الدولة، في مشهد أعاد وضع القضية الجنوبية على طاولة الفاعلين الإقليميين والدوليين. ومنذ ذلك التاريخ، لم يعد ممكنًا تجاوز الجنوب كرقم سياسي في أي نقاش حول مستقبل اليمن، مهما كانت محاولات الالتفاف أو التجاهل.
مع اجتياح مليشيا الحوثي للمدن الجنوبية في 2015، انتقل النضال الجنوبي من مربع الاحتجاج السلمي إلى مربع المقاومة المسلحة المشروعة. تراكم الخبرة النضالية منذ 1994 والحراك السلمي، وجد ترجمته في تشكّل نواة المقاومة الجنوبية في عدن ولحج والضالع وأبين، بدعم مباشر من التحالف العربي، خصوصاً دولة الإمارات العربية المتحدة، التي أسهمت في بناء قدرات ميدانية وأمنية نوعية. وقد شكّلت معركة عدن وباقي جبهات الجنوب لحظة كسر حقيقية لـ”معادلة 1994″، وأعادت الجنوب إلى موقع الطرف الفاعل على الأرض، لا الطرف المغيّب في المعادلات.
لاحقًا، تم الانتقال من صيغة “المقاومة” إلى صيغة القوات الجنوبية المنظّمة من خلال تأسيس تشكيلات عسكرية وأمنية محترفة، مثل النخبة الحضرمية، النخبة الشبوانية، الحزام الأمني، ألوية الدعم والإسناد، وقوات مكافحة الإرهاب. هذه التشكيلات أعادت بناء منظومة أمنية وعسكرية جنوبية بعقيدة واضحة ترتكز على حماية الأرض والإنسان ومواجهة الإرهاب والتمدد الحوثي، وهو ما انعكس على الواقع الميداني في تأمين المدن، وضبط المنافذ، وحماية مصادر الطاقة، وقطع طرق تهريب السلاح.
على المستوى السياسي، جاء إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي عام 2017 ليشكّل الإطار السياسي الأبرز الذي أعاد تنظيم الحضور الجنوبي في المشهد، بوصفه الحامل السياسي الرئيس للقضية الجنوبية. دخول المجلس في اتفاق الرياض وتوليه مواقع في السلطة التنفيذية والعسكرية والأمنية جعل منه فاعلًا رسميًا لا يمكن تجاوز دوره في أي تسوية سياسية قادمة، ورسّخ حضوره كطرف يمتلك: شرعية شعبية في الشارع، شرعية ميدانية على الأرض، وشرعية سياسية من خلال الشراكة في مؤسسات القرار ودوره في مكافحة الإرهاب وحماية المصالح الإقليمية والدولية في الجنوب.
اليوم، ومع انتشار القوات الجنوبية من المهرة شرقًا حتى باب المندب غربًا، وتكرّس المجلس الانتقالي كواجهة سياسية للمشروع الجنوبي، يمكن القول إن الجنوب انتقل من مرحلة كونه “قضية مهمّشة” إلى كونه مشروعًا وطنيًا مكتمل الأركان له حاضنته الشعبية، وأداته العسكرية، وواجهته السياسية، وصلاته الإقليمية والدولية.
بهذا المعنى، فإن إرادة شعب الجنوب لم تكتفِ بالصمود أمام تداعيات حرب 1994، بل نجحت في إعادة هندسة المشهد برمّته، واستعادة الهيبة والمكانة والقرار، لتصبح القضية الجنوبية اليوم عنصرًا حاسمًا في أي مقاربة جادة لمستقبل اليمن والمنطقة، لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها بأي صيغة كانت.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
arArabic